وجهات نظر

تونس والمخاوف من إضاعة فرص "الانتقال الديمقراطي"

لم تكن تجربة الانتقال الديمقراطي التي عرفتها تونس بعد الثورة (2010-2011) الأولى بل يمكن الحديث عن تجربة الثمانيات عندما تنازل المرحوم حبيب بورقيبة عن كبريائه واعترف لأول مرة بثلاثة أحزاب سياسية، أحدها هو الحزب الشيوعي (تأسّس قبل حزب بورقيبة)، واثنان منشقان عن الحزب الدستوري الحاكم. إلّا أنّ هذه التجربة لم تصمد طويلًا نتيجة لعوامل داخلية وأخرى خارجية دولية وإقليمية مما ساعد على إزاحة محمد مزالي الوزير الأول في مرحلة أولى، والحبيب بورقيبة رئيس الجمهورية في مرحلة ثانية عن طريق الوزير الأول الجنرال زين العابدين بن علي الذي أصدر بيانًا وعد فيه الشعب التونسي بحياة سياسيّة متطوّرة ومنظمة على حرية تكوين الأحزاب السياسيّة والتنظيمات الشعبية.

تونس والمخاوف من إضاعة فرص

دخلت البلاد منذ 1991 مرحلة جديدة اتّسمت بقمع واسع استهدف حزب النهضة ذا المرجعية الإسلامية وتقييد حركة ونشاط بقية الأحزاب المعارضة ومحاصرتها، ما أدى بالنهاية إلى فشل هذه التجربة خاصة مع التنقيحات التي أجراها ابن عليّ على بعض فصول الدستور، وكان الهدف منها رفع السن الأقصى للترشح لمنصب رئيس الجمهورية إلى 75 سنة، إضافة إلى عدد العُهُدات المسموح بها للترشح لرئاسة الجمهورية بعد استيفائه الدورات الثلاث التي حددها التنقيح الدستوري لسنة 1988، والذي نصّ على أنّ "رئيس الجمهورية يُنتخب لمدة خمسة أعوام ويجوز له أن يُجدّد ترشحه مرتين" ما سمح له بالترشّح من جديد بالانتخابات 2009 وصولًا إلى الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بحكمه وخوض البلاد تجربة انتقال ديمقراطي توصف بأنها فريدة باعتبار أنّها الأولى من نوعها التي عرفها العالم العربي، بالإضافة الى خصوصية بعض القضايا والإشكاليات التي واجهتها وعالجتها كالنقاشات الطويلة والحادة أحيانًا حول مسألة الهويّة واللغة ووظيفة الدين في المجتمع وعلاقته بالدولة وموقع المرأة ودورها.

تقويض قواعد اللعبة السياسية القديمة والحفاظ على السلم الاجتماعي والابتعاد عن العنف السياسي المدمّر

رغم ما ساد عملية الانتقال من تجاذبات إيديولوجية وسياسية حادة انتهت باغتيال رمزين من رموز المعارضة السياسية اليسارية العروبية، وظروف إقليمية صعبة تتمثل خاصّة في التداعيات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية للأزمة الليبية، بالإضافة إلى انتشار ظاهرة الإرهاب الذي مارسته بعض مجموعات التطرف العنيف السلفية التكفيرية، دون الحديث عن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تعتبر عاملًا مشتركًا بين جميع تجارب الانتقال، بالرغم من ثقل هذه المحدّدات، تمكنت منظمات المجتمع المدني الفاعلة والوازنة من إيجاد آليات مكّنت البلاد من تجاوز الأزمة الحادة، كما تمكّنت النخبة السياسية من تحقيق عدة إنجازات، الأمر الذي أدى إلى تقويض قواعد اللعبة السياسية القديمة والحفاظ على السلم الاجتماعي والابتعاد عن العنف السياسي المدمّر الذي عرفته أغلب الدول العربية التي اندلعت فيها "الانتفاضات" الشعبية، وهي مؤشرات أو مقاييس تؤكد "اكتمال" عملية الانتقال الديمقراطي.

ورغم فشل هذه التجربة التي دامت نحو عقد من الزمن، على خلفية إجراءات الاستثناء التي اتخذها رئيس الجمهورية يوم 25 يونيو/حزيران 2021 وأهمها تفعيل الفصل 80 من الدستور ومرسوم 115، وحل الحكومة وتعليق البرلمان وصولًا إلى حلّه وتنظيم استفتاء على مسودة دستور جديد على أنقاض دستور 2014، اعتبرت مكوّنات سياسية كانت تدير حكومات متعدّدة وتمثل الأغلبية في البرلمان أو من عارضها خلال تلك الفترة تلك الخطوات "انقلابًا" على الانتقال الديمقراطي، في حين اعتبرتها أحزاب أخرى إجراءات إصلاحية ضرورية "لإنقاذ" التجربة.

على النخب السياسية والاجتماعية التونسية أن تقوم بمراجعات شاملة لسلوكها الذي ساهم في الانتكاسة

وبعيدًا عن تلك التقييمات واستنادًا للوقائع، يمكن القول إنّ هذه التجربة الرائدة في محيطها عرفت انتكاسة حادة تعود لأسباب موضوعية عديدة تتحمّل الأحزاب السياسية مسؤولية رئيسية عن راهن الوضع السياسي نتيجة لعدّة عوامل منها ضعف الأحزاب السياسية، العجز عن معالجة التدهور الاقتصادي وتقليص نسبة البطالة والفقر والتهميش وعدم القدرة على تفعيل مبدأ التمييز الإيجابي للمناطق الداخلية التي تعيش أزمات مركّبة.

رغم هذه الانتكاسات يظلّ الأمل قائمًا في قدرة النخب السياسية والاجتماعية التونسية في تجاوز هذه الانتكاسة الحادة والاستفادة من تجربتها السابقة لإعادة بناء التجربة على أسُسٍ صلبة ومتينة بشرط ان تقوم بمراجعات شاملة لمواقفها وسلوكها السياسي السابق الذي ساهم في تلك الانتكاسة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن