تجاوزت مصر بإعلانها هذا كثيرًا من الاعتبارات التي كان يتصور المراقبون أنها تمنعها من التدخل القانوني ضد إسرائيل، ووضعت بذلك حكومة بنيامين نتنياهو على المحك أمام مسؤوليتها الإنسانية بشكل يزيد من عزلتها الدولية، ويغلق الطريق أمام محاولات الالتفاف على المعاهدات الدولية والاتفاقيات الثنائية الحاكمة لأوضاع المعابر الحدودية، والخطط الإسرائيلية لتغيير طبيعة المنطقة الحدودية بين مصر وغزّة إلى الأبد.
ولأن التحركات القانونية لا يمكن أن تنعزل عن المناخ السياسي، فيبدو أنّ مصر قررت استخدام ورقة التدخل أمام محكمة العدل الدولية لتحقيق عدة أهداف:
الهدف الأول، التأكيد على فداحة الخلافات التي قد تلقي بظلالها على مستقبل العلاقات الثنائية بين الجانبين، خاصة إذا بقي نتنياهو وحلفاؤه المتطرفون في السلطة.
الهدف الثاني، التهديد بإلحاق أذى سياسي وقانوني "قاسٍ" بإسرائيل في أكبر محفل قضائي أممي.
أما الهدف الثالث، فهو محاولة أن يشكّل هذا التدخل ضغطا إضافيًا على نتنياهو وحكومته للعودة الفعّالة إلى طاولة التفاوض والكف عن الممارسات التصعيدية وتعطيل الوساطة.
بينما قد يرتبط الهدف الرابع أكثر بالعلاقات مع واشنطن التي لا ترفض نقل الخلافات إلى القضاء الدولي ولكنها في الوقت ذاته لا تبذل جهدًا حقيقيًا لإنجاح المفاوضات أو إنقاذ الشعب الفلسطيني خاصة بعد موقفها الضعيف من تجاوز الخطوط الحمراء في رفح.
توثيق الأكاذيب الإسرائيلية التي تمسّ مصر
ما من دولة أو منظّمة أقدر من مصر على تقديم البراهين على خطورة الأوضاع الإنسانية في غزّة والانتهاكات الإسرائيلية المتزايدة والنية العمدية للإبادة الجماعية بالإصرار على عرقلة الوساطة وتعطيل المساعدات والتهجير القسري لأهالي غزّة، إلى محكمة العدل الدولية، ليس فقط لأنها الأقرب إلى الأحداث بحكم الدور العملي والجغرافيا والتاريخ، بل أيضا لأنها الطرف الإقليمي الأكثر استدعاء في الخطاب الإسرائيلي الرسمي، سياسيًا وقانونيًا.
استدعى الصهاينة مصر في البداية بلسان المهادنة "إسألوا مصر كم نبذل من الجهد للمساعدة الإنسانية" كما كتب محاموها في مذكراتهم ردًا على جنوب أفريقيا، ثم انتقلوا إلى الافتراء "مصر هي المسؤولة عن غلق معبر رفح" كما قال أحد محاميها في مرافعة شفهية في يناير/كانون الثاني الماضي، أو باتهام مصر صراحة بـ"احتجاز سكان غزة رهائن" وبـ"رفض التعاون" كما قال نتنياهو وتبعته مصادر "الشاباك" مؤخرًا.
وحفلت المذكرات الإسرائيلية المقدّمة إلى المحكمة بالمزاعم التي يمكن لمصر الرد عليها بقوة فاضحة. فجنوب أفريقيا أو أي دولة متدخلة يمكنها مجابهة تلك المزاعم بواسطة التقارير الأممية الموثّقة والأخبار والإحصائيات المنتشرة على وكالات الأنباء، لكن مصر تملك وحدها القدرة على إبطالها تمامًا، وردّها إلى نحور الصهاينة، إذا قررت مصارحة محكمة العدل الدولية والعالم بالحقيقة الموثّقة للمواقف الإسرائيلية، وكيف أنّ ادعاءاتها مختلقة بالكامل، مما يؤكد ارتكابها لجرائم الإبادة الجماعية بنسبة وعي 100%.
هل يجوز لمصر أن تطلب بنفسها تدابير ضد إسرائيل؟
يسمح نظام محكمة العدل الدولية لأي دولة بالتدخل في أي دعوى بمذكرة رسمية، وبأن تؤيد أيًا من الطرفين بواسطة مذكرات قانونية تدعم موقف المدعي أو المدعى عليه، وبالطبع تحاول الدول المتدخلة أن تحشد المزيد من الأدلة والبراهين، خاصة إذا كانت ذات صلة بالنزاع أو الصراع الجاري.
من هنا فالطبيعي أن تقدّم مصر – والدول الثلاث الأخرى المنضمة إلى جنوب أفريقيا - مذكرات تدعم موقفها في النهوض للدفاع عن الشعب الفلسطيني ومنع جريمة الإبادة الجماعية، لا سيما وأنّ اتفاقية مكافحة تلك الجريمة تسمح لكل دولة وقّعت عليها باللجوء إلى أجهزة الأمم المتحدة لمنع وقوع صور تلك الجريمة، وتحتّم عليها العمل تشريعيًا على التصدي لها وملاحقة مرتكبيها. غير أنه لم يسبق في تاريخ المحكمة أن تقدّمت دولة متدخلة بطلب لإصدار تدابير مؤقتة ضد الطرف المدعى عليه، وهو تطور هام في مجال القانون الدولي، تبدو مصر مؤهلة له تمامًا وبصورة استثنائية.
ويدعم هذا التصوّر أنّ دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل ليست مرتبطة إطلاقًا بعلاقتهما الثنائية، بل بتطبيق اتفاقية دولية لمصلحة طرف آخر هو الشعب الفلسطيني، باعتبار أنّ اتفاقية مكافحة الإبادة الجماعية تتضمن قواعد قانونية إنسانية واجبة النفاذ على الكافة (erga omnes) مشابهة في ذلك لدعوى جامبيا ضد ميانمار لوقف مذابح أقلية الروهينجا والتي لم يصدر فيها حكم نهائي حتى الآن.
وبالتالي؛ فإنّ إعلاء تلك القواعد القانونية ليس حكرًا على جنوب أفريقيا، ولا يمكن أن تقتصر أوجه الدفاع على رؤية جنوب أفريقيا، بل يمكن بمرور الوقت أن تظهر لدى دول أخرى دوافع وأدلة تدفعها لتحرك فردي جديد بهدف فرض تدابير مؤقتة جديدة على إسرائيل، تساهم في نهاية المطاف في تحقيق هدف الدعوى لحماية الشعب الفلسطيني.
ونجد هنا أنّ مصر باعتبارها طرفًا ثالثًا في حرب غزّة ومنخرطًا بشكل مباشر في عمليات التفاوض والمساعدة والإنقاذ والعلاج، تحظى بوضع قانوني وجغرافي يؤهلها أكثر من أي دولة أخرى لمواجهة إسرائيل أمام المحكمة مباشرة لمحاولة فرض تدابير بعينها على إسرائيل لنتمكن من أداء واجباتها الإنسانية تجاه الشعب الفلسطيني، والوفاء بالتزاماتها القانونية بموجب الاتفاقيات الدولية.
فعلى سبيل المثال؛ يمكن لمصر أن تتخذ من أزمة معبر رفح دافعًا لطلب فرض تدابير مؤقتة لإلزام إسرائيل بإنهاء حالة احتلال المعبر وتسليمه للفلسطينيين، حتى يتسنى لمصر فتحه بأمان وعودة تدفق المساعدات الإنسانية، وربما يجدر أن تطلب فرض تدابير أخرى لإلزام إسرائيل بإخراج قواتها من رفح ومناطق أخرى.
يتطلب هذا الطرح مزيدًا من الدراسة القانونية والسياسية، والتنسيق أيضًا مع جنوب أفريقيا، لكن الأكيد أنّ التدخل المصري سيشكّل دعمًا أقوى من أي طرف آخر للحق الفلسطيني، وتأكيدًا لخطورة الصمت الدولي على ممارسات إسرائيل.
(خاص "عروبة 22")