مراجعات

في العطالة الذهنية للنخب السياسية العربية

لئن تبدو الأزمة العربية الراهنة من أخطر الأزمات التي شهدتها المنطقة بحكم حالة "الانسداد التاريخي" التي انتهت إليها مختلف التجارب الإصلاحية والتحديثية، فإنّ محاولات قراءتها وتحليلها لم تنقطع. إذ توجّهت الأنظار إلى تشريح "العقل السياسي العربي"، وأدوار البنى العميقة الممثّلة بالنخب السياسية العربية في ما آلت إليه الأوضاع.

في العطالة الذهنية للنخب السياسية العربية

يُعدّ في هذا الصدد كتاب "في العطالة الذهنية للنخب السياسية العربية: دراسة في الميديا وباتالوجيا العقل الجمعي" للباحث السوسيولوجي التونسي بمركز الدراسات الاقتصادية والاجتماعية (CERES)، الأستاذ مصباح الشيباني، من أحدث المحاولات في دراسة الواقع السياسي العربي الراهن بما أنّه لم تمضِ على صدوره إلّا بضعة أشهر (سنة 2024). وقد حاول فيه صاحبه الإجابة عن سؤال محوري يتّصل بكيفية قراءة طبيعة الأزمة العربية غير المسبوقة، وتفرّعت عنه أسئلة فرعية مثل ما أسباب العجز العربي في مواجهة التحدّيات المتسارعة؟ وما خلفيات الصور الإعلامية "المنتجة للميثولوجيا الرقمية الجديدة" في علاقتها بالفاعلين السياسيين والاجتماعيين المؤثّرين عربيًا؟.

يرى المؤلّف أنّ الأزمة العربية الراهنة أزمة نخبة وثقافة في عمقها، مرتبطة بطبيعة الثقافة السياسية السائدة ضمن ما سمّاه بـ"العطالة الذهنية" في مستوى أوّل، ثم سعى إلى قراءتها في ضوء الحراك السياسي والاجتماعي الذي شهدته المنطقة في إطار ما يُعرف بـ"الربيع العربي" ضمن مستوى ثانٍ، حيث عرّت تلك الأحداث المفصلية القصور الذهني للنخب السياسية وفضحته في ظلّ الاستعمال الواسع للثورة المعلوماتية والاتصالية وشبكات التواصل الاجتماعي ومختلف المنصّات الرقمية.

فضحت الثورة الرقمية أعطاب الذهنية السياسية العربية

وقع تعريف العطالة الذهنية انطلاقًا من التمييز بينها وبين غياب ملكة العقل. إذ لا تعني العطالة غياب ملكة العقل أو وجود سمات ثقافية نموذجية محدّدة ثابتة، وإنّما بصفتها "مجموعة المواقف والسلوكيات الظاهرة أو المستترة ضمن سياقات الوعي الجماعي (...) المعبّرة عن تجربة الإنسان فردًا أو جماعة" (ص 48 من العمل نفسه)، وهي بهذا المعنى انعكاس لقصور مزمن عن التفكير النقدي المبدع في قضايا الحاضر والتخطيط للمستقبل. فعادةً ما تتزامن العطالة الذهنية مع استقالة الفكر وانغلاق الثقافة المبدعة وهيمنة ثقافة القطيع والحشود.

فضحت الثورة الرقمية أعطاب الذهنية السياسية العربية. وتلخّص نوعية الحقول المعجمية المستخدمة بكثافة في ثنايا الكتاب هذه الوضعية وخطورتها. إذ تردّدت كثيرًا عبارات "الجمود" و"القصور" و"الصندقة الذهنية" و"الجهل المركّب" والنرجسية" و"النوستالجيا" و"الصنمية" و"الجماعات الميليشوية" و"الغنيمة" و"السياحة الحزبية وشراء الذمم" و"الطائفية" و"الاستحمار الالكتروني" و"حرائق الغابات الرقمية" و"الكاريزما الافتراضية" و"الثقافة السيبرانية". فهذا التنوّع المعجمي والدلالي - الذي يحيل على مرجعيتين ما من تنائيها بد: مرجعية حديثة تهمّ الرقمنة و"السيولة"، ومرجعية قديمة تحيل على نسق الأحكام السلطانية التليد، أفضى إلى تشكّل مفارقة بين الواجب والحاصل أو الموجود والمنشود. ففي الوقت الذي كان من المنتظر أن تفضي الثورة الرقمية إلى ترسيخ الحداثة السياسية العربية حدث نقيضها بانفجار ترسّبات النسق الثقافي القائم منذ قرون وتمدّده بما يهدّد استقرار المجتمعات العربية وتماسكها.

عجز النخبة السياسية العربية عن تجديد ثقافتها السياسية أفضى إلى بروز "الشعبوية" 

إذا كانت تجلّيات تلك العطالة الذهنية للنخب السياسية العربية تبرز للعيان في ضحالة السجال السياسي الرائج وسوء توظيف مكتسبات العصر الرقمي، فإنّ أسبابها ترجع إلى عوامل ذاتية وموضوعية مرتبطة بأزمة الثقافة السياسية العربية التي لم تستطع تجديد نفسها وتجاوز النسق الثقافي المهيمن، الذي يجترّ منذ قرون منظومة من الأعراف والطبائع المنافية لروح الديمقراطية. فبدل مقاومة الانحسار الفكري والثقافي للمجتمع خلال الأزمات التاريخية المتلاحقة، عملت النخب السياسية العربية الفاعلة على تغذية النعرات الطائفية والولاءات العصبوية القديمة ودمجتها ضمن أيديولوجيتها الحزبية والهوياتية الخاصّة بها ليسهل عليها السيطرة على الحشود ضمن ما يُعرف بـ"ثقافة القطيع". وهي عملية مقنّنة منظّمة اشتركت مختلف التشكيلات السياسية والأيديولوجية العربية فيها سواء أكانت "تقدّميّة" أم "رجعية" بناءً على ما أفرزته مآلات الحراك السياسي والاجتماعي الذي شهدته المنطقة العربية منذ سنة 2011.

أفضى عجز النخبة السياسية العربية عن تجديد ثقافتها السياسية إلى بروز "الشعبوية" بحكم أنّ الطبيعة تأبى الفراغ. إذ في ضوء تحوّل السياسة من فنّ الممكن إلى آلية من آليات الخداع والتلاعب بالعقول، سيطر "المشهد الهوجاقراطي" (التضليلي الهجين) الذي فاقم حالة اليأس والصدمة التي تعيشها الشعوب العربية بفعل العجز عن تحقيق حقوقها الأساسية في تكريس الحرية والشغل والكرامة الوطنية والعدالة الاجتماعية. وهو ما خلّف شروخًا نفسيةً وقلاقل سياسية وحضارية جعلت العالم العربي "سلعة" في مزاد القوى الاقليمية والدولية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن