بالرغم من الاختلافات العقائدية بينها، إلا أنّ ظهورها في فترة وجيزة ينّم عن قواسم مشتركة أبرزها تأثير ظهور الأحزاب القومية الفاشية في أوروبا، وأولها الحزب الفاشي في إيطاليا الذي عبّر ظهوره ثم سيطرته على السلطة عن انقلاب على الأفكار الليبرالية الديمقراطية وأحزابها. وذلك قبل أن يفوز الحزب النازي في ألمانيا بالانتخابات عام 1933، ثم ظهور حزب "الفالانج" في اسبانيا الذي مهّد للحرب الأهلية.
وكما كانت الفاشيات الأوروبية بمثابة رد فعل على الليبرالية ومعاداة لها. فإن الأحزاب والجماعات التي ظهرت في الفضاء العربي جاءت بدورها كرد فعل على الأحزاب الليبرالية التي لم تستطع حتى حينه من تحقيق الاستقلال. إضافة إلى ذلك فإن هذه الأحزاب قد عبّرت عن بروز فئات اجتماعية جديدة من الطبقات الوسطى التي نالت حظًا من التعليم ولم تحظَ بنصيبها من السلطة.
أفكار عصبة العمل القومي بمثابة تأسيس مبكر لمبادئ القومية العربية
وخلال المؤتمر الذي انبثقت عنه عصبة العمل القومي، ناقش المجتمعون أيام حالة التفكك والضعف التي تعاني منها البلاد العربية، وخلصوا إلى أن الهدف هو استقلال العرب ووحدتهم، أما حدود البلاد العربية فهي من المحيط إلى الخليج. هذا العالم الذي تشغله جنسية واحدة ولغة واحدة، مع الإقرار بحقوق كافة المواطنين لا فرق في الحقوق والواجبات بين مواطن أيًا كان مذهبه أو منبته أو لغته، إلا أن البيان يؤكد أن لسكان البلدان العربية، جنسية واحدة هي الجنسية العربية ولغة رسمية واحدة هي اللغة العربية. واعتبر أن الإخلال في ذلك جريمة.
ويمكن أن نعتبر أفكار عصبة العمل القومي بمثابة تأسيس مبكر لمبادئ القومية العربية، بالمقارنة مع مبادئ وأفكار عروبيي مطلع القرن العشرين ممن قادوا وشاركوا في الثورة العربية. حين كانت العروبة تقتصر على البلاد العربية الآسيوية. ويمكن أن نتعرّف إلى الأفكار العروبية من خلال الدستور الذي صاغته لجنة منبثقة عن المؤتمر السوري عام 1920، والذي تركز مواده على مدنية الدولة ولغتها العربية دون تحديد دين الدولة، وتؤكد مواد الدستور على أن حرية المعتقدات مصونة من كل تعّد، ولا يجوز توقيف أحد إلاّ بالأسباب والأوجه التي يعينها القانون، ولا يجوز التعذيب وإيقاع الأذى على أحد بسبب ما. وتنصّ المادة 13 على حرية المعتقدات والديانات، وحق تأليف الجمعيات وعقد الاجتماعات، وتأسيس الشركات وحرية المطبوعات ضمن دائرة القانون ولا يجوز تفتيشها ومعاينتها قبل الطبع.
ذهبت العصبة باتجاه آخر، ففي الوقت الذي كانت فيه الحركة الوطنية في سوريا تفاوض سلطات الانتداب، فإن بيان العصبة أكّد في أسطره الأولى، إن المؤتمر قرر أن يُرجع كل مبدأ إلى عِلله فيقف العرب بذلك على جلية من أمرهم ويتبين لهم حقيقة موقف المستعمر منهم ويتأملوا أسس طريقة الجهاد القومي التي وضعها المؤتمرون من أبنائهم لبلوغ أهدافهم، ويكاد موضوع أو هاجس الاستعمار أن يكون هو المسيطر على صفحات البيان. ولم يكن ذلك مستغربًا فقد كانت كل البلاد العربية تحت سيطرة الاستعمار. وامتدادًا للنضال ضد الاستعمار يذكر البيان: "إنّ الصهيوينة أو فكرة إنشاء وطن قومي لشذاذ الآفاق الذين تطاردهم الأمم المستقلة نظرًا لخطرهم على عنصريتها وقومياتها وثرواتها ومبادئها الاجتماعية وقواعدها الخلقية".
حددت العصبة "الوحدة" و"التحرّر" من شعارات القومية العربية قبل أن يُضاف شعار "الاشتراكية" في الخمسينات
إلا أنّ هذا العداء للاستعمار يفضي لدى عصبة العمل القومي إلى عداء للغرب: ثم ظهر للمؤتمرين كيف أن المستعمرين عمدوا إلى إفساد خلق الشعب وإفساد روحه وعقله وتسميمها بسموم المدنية الغربية.
ومن هنا يدعو البيان إلى: قصر اللغات الأجنبية على البحث العلمي والامتناع عن التخاطب بها بين العرب، ومقاومة التبشير الأجنبي وأشكاله وشتى مظاهره. وبالمقابل: إحياء الحضارة العربية واطلاع أبناء الأمة العربية على تراثهم وعظمة تاريخهم، كي لا تجرفهم حضارة الغرب الوافدة عبر الارساليات والبعثات التبشيرية.
إن الأهداف العليا كما حددها البيان هي: سيادة العرب واستقلالهم المطلقين، والوحدة العربية الشاملة. وهما هدفان مترابطان. الوحدة العربية جزء غير منفصل عن هدفها في السيادة والاستقلال. وبذلك تكون العصبة قد حددت شعارين من شعارات القومية العربية أي الوحدة والتحرر، قبل أن يُضاف شعار الاشتراكية في الخمسينات.
ينكر البيان كل ما يفضي إلى التعددية، ولا يعترف بوجود الأقليات المذهبية والعنصرية أو اللغوية. إضافة إلى ذلك فإن البيان يدعو إلى ما يشبه الحزب الواحد، أن تؤسّس الحركة على أساس شعبي وتنظّم تنظيمًا محكمًا وبعبارة أخرى: سوف لا تقوم هذه النهضة على أساس فردي أو زعامة محلية شأن الحركات السابقة، بل أنها ستقوم على أساس إشراك الشعب وطبقاته بأسرها "ولما كانت القومية العربية روح هذه النهضة ومحورها، أقرّ المؤتمر أنه ليس من الجائز اعتناق أي مذهب من المذاهب الاجتماعية يكون من شأنه إضعاف الحسّ القومي أو الخروج على التقاليد العربية الصالحة. وأن من الواجب مقاومة كل عصبية غير العصبية القومية، والقضاء على العصبيات العائلية أو المذهبية أو المحلية التي يجب أن تذوب وتغنى في سبيل المصلحة القومية، وكل ذلك يؤسس للحزب الواحد والعقيدة الواحدة (بيان المؤتمر التأسيسي لعصبة العمل القومي المنعقد في قرنايل 24 أغسطس سنة 933 ميلادي- المطبعة العصرية- دمشق).
(خاص "عروبة 22")