غير أنّ هذه الطقوس لا تخلو من تحدّيات في السياقات المعاصِرة، حيث تتقاطع مع تحوّلاتٍ ديموغرافيةٍ واقتصاديةٍ وثقافيةٍ عميقة. ففي عددٍ من البلدان العربية، بدأت أنماط التديّن تتغيّر، وأخذت بعض الشرائح الاجتماعية، خصوصًا في المدن الكبرى، تُعيد النّظر في علاقتها ببعض التقاليد والطقوس، تحت تأثير الحداثة والعوْلمة وتبدّل القيم.
في هذا السّياق العام، تبرز حالة المغرب كنموذجٍ فريدٍ يجمع بين المحافظة على عمق الطقوس الدينية ورمزيتها من جهة، والانخراط في ديناميّات التحديث والتأقلم مع المتغيّرات من جهةٍ أخرى.
منظومة من القيم والعادات والتقاليد يتداخل فيها ما هو روحي بما هو اقتصادي وما هو ديني بما هو سياسي
يُعتبر الشعب المغربي من أكثر الشعوب الإسلامية تشبّثًا بطقوسه الدينية، وعلى رأسها صيام شهر رمضان، وأداء فريضة الحج، وذبح أضحية عيد الأضحى. (وِفق مركز "بيو" الأميركي، فإنّ المغرب يتصدر دول شمال أفريقيا من حيث أهمية الدين في المجتمع، إذ يَعتبر 90% من المغاربة الدّين أساسيًا في حياتهم، ويؤدّي أكثر من 70% منهم الصلاة يوميًا). إلّا أنّ هذه الممارسات تتجاوز طابعها الديني المَحض، لتغدوَ لحظاتٍ جماعيةً تؤسّس لروابط اجتماعية وثقافية بين أفراد المجتمع، كما تُعيد إنتاج علاقة المغاربة بالفضاء الإسلامي الأوسع. وقد نتج عن هذا الارتباط العميق تَشكُّل منظومةٍ من القيم والعادات والتقاليد، استقرّت عبر قرونٍ منذ دخول الإسلام إلى المغرب، لتُشكّل اليوم هوية دينية واجتماعية مُرَكّبة، يتداخل فيها ما هو روحي بما هو اقتصادي، وما هو ديني بما هو سياسي.
تتجلّى مركزيّة هذه الطقوس في ارتباطها المباشر بمؤسّسة "إمارة المؤمنين"، التي تضطلع بدورٍ محوريّ في حمايتها وضمان استمراريتها. فإلى جانب أدواره الدستورية والسياسية، يحرص العاهل المغربي، باعتباره أميرًا للمؤمنين، على رعاية هذه الشعائر الدينية؛ إذ يترأس خلال شهر رمضان الدروس الحسنيّة، ويشارك في أداء الصلوات، ويُشرف على نحر الأضحية، ويوجّه الحجاج المغاربة، فضلًا عن رئاسته للمجلس العِلمي الأعلى الذي تصدر الفتاوى باسمه. وهذه الممارسات تندرج في إطار تقليدٍ تاريخيّ دأبت عليه مختلف الأُسَر الحاكِمة منذ القرن الثامن، ولا سيما تلك التي تنتمي إلى النّسب الشريف، كالدولة العلوية.
فترات رمضان والأضحى والحج تخلق ديناميّات اقتصادية ضخمة من خلال تنشيط قطاعات متعدّدة وخلق آلاف مناصب الشغل
وعلى الرَّغم من التحوّلات العميقة التي شهدها المجتمع المغربي، سواء على المستوى الديموغرافي أو القيمي، فإنّ التمسّك بهذه الطقوس الدينية لا يزال قويًا. فمعظم المغاربة ما زالوا يحرصون على صيام رمضان، وأداء فريضة الحج، وذبح الأضحية، بما يعكس استمرار التأثير العميق لهذه الشعائر في الحياة اليومية. غير أنّ هذا لا ينفي بروز فئةٍ محدودةٍ بدأت تُعيد النظر في ارتباطها بهذه الطقوس، تحت تأثير عوامل متعدّدة، أهمها التحوّلات القيمية التي تشهدها فئات من الطبقة المتوسطة، والتي أصبحت تتبنّى بشكلٍ متزايدٍ نمطًا قيميًا كونيًا يتجاوز القيم المحلية التقليدية. ويُعزى هذا التحوّل أيضًا إلى تغيّر البنية الاجتماعية، إذ انتقل المجتمع المغربي من نموذج الأسرة الممتدّة والقبيلة، الذي كان يقوم على التضامن والتكافل، إلى نموذجٍ أكثر فردانية، يقوم على العزلة والاستهلاك، وتراجُع الروابط الجماعيّة. وهذا التحوّل انعكس على علاقة بعض الأفراد بالطقوس الجماعية، بخاصّة تلك التي تستدعي مشاركةً مجتمعيةً واسعةً، مثل عيد الأضحى.
إلى جانب البُعد الديني والاجتماعي، تُمثّل هذه الطقوس محطاتٍ اقتصاديةً رئيسية. ففترات شهر رمضان، وعيد الأضحى، وموسم الحج، تخلق كلّها ديناميّات اقتصاديةً ضخمةً، من خلال تنشيط قطاعات متعدّدة، وخلق آلاف مناصب الشغل، خصوصًا الموسميّة منها. فعلى سبيل المثال، يشهد عيد الأضحى بيع حوالى خمسة ملايين إلى ستة ملايين رأس من الماشية، ممّا ينعش قطاع تربية الأغنام، ويخلق دورةً اقتصاديةً تمتدّ من القرى إلى المدن الكبرى، حيث تظهر العديد من المهن المؤقتة التي تدرّ دخلًا مُهمًّا لأصحابها، وتُساهم أحيانًا في إدماجهم في النسيج الاقتصادي بشكلٍ دائم.
وفي سياقاتٍ استثنائيةٍ، ولأسبابٍ اقتصاديةٍ أو سياسيةٍ، لم يتردّد المغرب عبر تاريخه في اتخاذ قراراتٍ بتعليق بعض هذه الطقوس. فعلى سبيل المثال، توقّفت رحلات الحج في فتراتٍ سابقةٍ بسبب صعوبات لوجستية أو توتّرات سياسية، كالعهد الذي كانت فيه الجزائر خاضعةً للسيطرة العثمانية. كما تمّ تعليق شعيرة نحر الأضحية في مناسبات متعدّدة، لعل أبرزها سنة 1996، في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، نتيجة تداعيات الجفاف. وفي الوقت الرّاهن، وخلال فترة حكم الملك محمد السادس، شهدنا أيضًا تعليقًا جزئيًا لهذه الشعيرة في ظلّ تراجع عدد رؤوس القطيع الوطني بنسبة فاقت 40%، ما دفع الدولة إلى اتخاذ إجراءات استعجالية، من بينها تسريع عمليات الاستيراد.
التوازن بين المحافظة على الطقوس وتجديدها مفتاح استمرارها وتأثيرها الإيجابي في الحياة اليومية
وعلى الرَّغم من الانضباط الملحوظ لقرار تعليق الأضحية من طرف شريحةٍ واسعةٍ من المغاربة، إلّا أنّ الإقبال الكبير على شراء اللحوم ومشتقّاتها قد يُفرغ القرار من مضمونه، خصوصًا في ظلّ الطلب المرتفع ومحدوديّة العرض. وقد أدّى هذا الوضع إلى ارتفاعٍ ظرفيّ في أسعار اللحوم، إذ تجاوز سعر الكيلوغرام الواحد 150 درهمًا (حوالى 15 دولارًا أميركيًا)، وهو ارتفاعٌ يُتوقع أن يتراجع بعد انقضاء العيد، نتيجة انخفاض الطلب.
عمومًا، تبقى الطقوس الدينية في العالم العربي، وبخاصّة في المغرب، ركيزةً أساسيةً تربط بين الأبعاد الروحية والاجتماعية والثقافية. وتعكس هذه الممارسات هويةً عميقةً ومتجذّرةً في الوجدان الجمعي، على الرَّغم من التحدّيات والتحوّلات المجتمعية الراهنة. ويظلّ التوازن بين المحافظة على هذه الطقوس وتجديدها مفتاح استمرارها وتأثيرها الإيجابي في الحياة اليومية.
(خاص "عروبة 22")