إذا ما قارنّا الإنتاج الصناعي لدول الوطن العربي بإنتاج الدول الصناعية الكبرى، نستطيع وضع اليد على التفاوت الحاصل بين طرفَيْن: طرفٌ يُشكّل المركز الصناعي العالمي، وطرفٌ ينشط - يُنتج ويستهلك / يُصدّر ويستورد - على هامش العملية التصنيعيّة المركزية والتي لم تعد تتكوّن من الغرب الرأسمالي فقط، بل اقتحمتها دول جديدة، منها دول كبرى كالصين واليابان... إلخ، ومنها دول صاعدة من قبيل الهند والبرازيل إلخ.
وتشغل دول الوطن العربي حيّزًا أقلّ من الحيّز الذي تشغله الدول الصاعدة، على الرَّغم من التقدّم الصناعي الذي تحرزه دول كالسعودية (245,4 مليار دولار/ قيمة الإنتاج الصناعي عام 2023) والإمارات (175,2 مليار دولار) ومصر (115,9 مليار دولار) والمغرب (55,8 مليار دولار).
الفرق بين الإنتاج الصناعي العربي ونظيره في الدول الصاعدة يرجع إلى التفاوت في نماذج التصنيع بين الإنتاجَيْـن
تكفي المقارنة بين هذه القيم وتلك التي يُحقّقها الإنتاج الصناعي في أميركا أو الصين أو الهند أو البرازيل أو اليابان أو ألمانيا، لاكتشاف الفرق بينها؛ وهو الفرق الذي يصبح شاسعًا عندما نتحدّث عن دولةٍ كالصين، أو عن دولةٍ كأميركا، حيث يُقدَّر الإنتاج الصناعي بالتريليون دولار لا بالمليار دولار. أمّا الفرق بين الإنتاج الصناعي العربي ونظيره في الدول الصاعدة (الهند والبرازيل مثلًا)، فيرجع إلى التفاوت في نماذج التصنيع بين الإنتاجَيْن.
ومرةً أخرى نؤكّد، أنّه على الرّغم من التقدّم العربي في المجال، فإنّ الدول العربية - خصوصًا المتقدّمة منها صناعيًا - لم تتخلّص بعد من مشاكل عدّة تحدّ من نجاعة تصنيعها؛ وذلك من قبيل:
- استمرار واقع التبعيّة الصناعيّة: وهذا الواقع فيه المباشر وغير المباشر؛ إذ تتجلّى التبعية المباشرة في حصص الرأسمال الأجنبي داخل الأسواق العربية، وفرض نوعٍ من الاستيراد والتصدير عليها، وإخضاعها لتبادلات العملة الإمبريالية، ومنعها من تطوير قواها الإنتاجية في مجال التصنيع. أمّا التبعية غير المباشرة فتتجلّى في إخضاع المجتمعات العربية، كما هو حال باقي مجتمعات الجنوب، لما يمكن تسميته "التقسيم الدولي للتصنيع" (وهو تجلّ من تجلّيات "التقسيم الدولي للعمل")، حيث تعمل الاحتكارات الإمبريالية على تطويق المجتمعات والدول كافّة بقاعدةٍ اقتصاديةٍ تحافظ على الاحتكار الصناعي العالمي وتعسّر مهام التقدّم في ظلّ الشروط التي ينتجها.
"التخطيط الاقتصادي" عملية شاملة تُقرّر الإصلاح وتُبرمجه وتُنفذه كمشروع يستهدف تطوّر الرّأسمال وقواه الإنتاجية
- الحدود السياسية لعملية التصنيع: وهذا ما ينبغي الانتباه إليه أيضًا، لأنّ قرار التصنيع سياسة من جهةٍ أولى، ولأنّه من جهةٍ ثانيةٍ قرار يؤثر على الرأسمال ويتأثر به. ومعلوم أنّ للرّأسمالية منطقًا خاصًّا في السياسة والاجتماعي والفكر، وهو المنطق الذي قد يُعجّل به تعميم الرّسملة قبل أن يكون النظام السياسي العربي قادرًا على استيعابه. ومن شأن تحرّز هذا التحوّل واتّقاء نتائجه السياسية والفكرية أن يُعيق عملية تقدّم الإنتاج الصناعي، وهذا من القيود التي تفرضها علاقات الإنتاج القائمة على قوى إنتاجية في حاجة إلى النموّ. وليس مطلوبًا فكّ العلاقات القائمة، بل ربّما يحتاجها الواقع العربي في السياق الحالي. السؤال المطروح هنا هو: هل هناك مساحات جديدة يمكن أن يملأها التصنيع من دون أن تؤثر سلبًا على العلاقات الاجتماعية - السياسية القائمة؟ فإذا وُجدت هذه المساحات، وجب ملؤها.
- مشاكل الرّبط بين مجالات الاقتصاد: لا يمكن الحديث في بعض الدول العربية (مثلًا: مِصر وسوريا) عن إصلاحٍ صناعيّ من دون الحديث عن إصلاحٍ زراعي، وفي دولٍ أخرى (مثلًا: الجزائر والعراق) لا يمكن الحديث عن صناعةٍ معدنيةٍ في ظلّ تراجعٍ وضعفٍ يعتريان عملية التنقيب عن المعادن؛ ناهيك عن الاهتمام الذي يجب أن يعرفه تطوير الخدمات والقدرات التسويقية والتجارية وكذا شبكة العلاقات التبادلية على مستوى السّوق الدولية. هنا تظهر أهمّية "التخطيط الاقتصادي" بما هو عملية موحّدة وشاملة تُقرّر الإصلاح وتُبرمجه وتُنفذه كمشروعٍ يستهدف مجالات تطوّر الرّأسمال وقواه الإنتاجية كافّة (الزراعة/ الصناعة/ التجارة/ العقار/ المال... إلخ).
يجب بحث مدى القدرة على استنساخ التجربة الصينية وتكييفها عربيًا
- ضعف مشاريع التصنيع المحلي: كما تحتاج عملية التعميم القطاعي (تعميم الرّأسمال قطاعيًا) إلى "تخطيطٍ اقتصادي"، كذلك هو الشأن بالنسبة لعملية التعميم جهويًا ومحليًا. لكلّ جهة أو منطقة منتوج زراعي يوافق مُناخها وطبيعتها، أو ثروة طبيعية أو معدنية تُميّزها عن باقي المناطق؛ وهو ما يحتاج إلى تطويرٍ ودعمٍ يشمل الإنتاج والتسويق. كما يحتاج إلى تنظيم عملية الإنتاج وضمّها في مجملها إلى مشروعٍ أكبر من دون أن ينتج عن ذلك حرمان للأفراد وصغار المالكين من ملكيّة وسائل إنتاجهم. ينبغي تأسيس مشاريع محلية تطوّر القدرة الإنتاجية والربح معًا من جهة، وتحفظ الملكية من جهةٍ ثانيةٍ، وتدعم رؤوس الأموال الوطنية العربية من جهةٍ ثالثة. هكذا هي التجربة الصينية، ويجب بحث مدى القدرة على استنساخها وتكييفها عربيًا.
ضعف الاستفادة من القدرات والخامات: وهذا يرجع إلى الأسباب التي ذكرناها آنفًا، وهو يحتاج إلى سياسةٍ صناعية، أي إلى تأسيس التصنيع بما هو قرارٌ سياسيّ. إنّ غياب هذا القرار، في هذا البلد أو ذاك، هو ما يمكن أن نفسّر به - تفسيرًا تكنيكيًا وسياسيًا ووطنيًا - وجود صناعاتٍ لا تستوعب القدرات والخامات الوطنية، أو لا تستوعبها بالقدر الكافي على الأقلّ. يدلّ هذا الواقع على وجود الصناعة وغياب التصنيع. ومطالب تأسيس التصنيع كما يلي: معرفة حدود القرار الاقتصادي - السياسي، تحديد ما يمكن تجاوزه منها، "التخطيط الاقتصادي" للتصنيع الوطني، استيعاب القدرات والخامات في حدود هذا "التخطيط". وعلى هذا الأساس يجب تقييم الدول العربية.
(خاص "عروبة 22")