لم يعد التعليم، في عالمنا المعاصر، مجرّد وسيلةٍ لاكتساب المعرفة، بل أصبح أيضًا الجسر الذي يربط بين طموحات الأفراد ومتطلّبات المجتمعات، وبين إمكانات الشباب واحتياجات سوق العمل المتغيّرة.
في المنطقة العربية، التي تزخر بطاقاتٍ بشريةٍ ضخمةٍ وشابّةٍ، لطالما كان الاستثمار في التعليم محرّكًا أساسيًا للتنمية. مع ذلك، وعلى الرَّغم من الإنفاق الكبير على بناء المدارس والجامعات وتأهيل الكوادر التعليمية، لا تزال المنطقة تواجه معضلةً مُستعصيةً تتمثّل في عدم قدرة مُخرجات التعليم على مواكبة الإيقاع السريع والتغيّرات المُتلاحقة في سوق العمل. هذه المعضلة ليست مجرّد تحدٍ اقتصادي عابر، بل هي أزمة بنيوية تُلقي بظلالها الكثيفة على مستقبل الأجيال الشابة وتعوق مسيرة التنمية المستدامة في بلدان تتوق إلى تحقيق الازدهار والاندماج الفاعل في الاقتصاد العالمي.
الأنظمة التعليمية في العالم العربي تُركّز على التلقين النّظري وتغفل تطوير المهارات العملية والتطبيقية
يتجلى عدم المواءمة هذا في أرقامٍ تثير القلق، وفي قصص آلاف الشباب الذين يحملون شهادات جامعية ويجدون أنفسهم في طوابير الباحثين عن عمل أو يعملون في وظائف لا تتناسب ومؤهلاتهم. هي ظاهرة تهدّد الاستقرار الاجتماعي، وتضيّع طاقاتٍ ضخمةً من الثروة البشرية التي تُعَدّ أغلى ما تملك الأمم. لفهم هذا التحدّي بعمق، لا بدَّ من تفكيك أبعاده واستعراض الجهود الحثيثة التي تبذلها الحكومات العربية لمعالجة هذه الفجوة، ومحاولة استشراف آفاق الحلول الممكنة لمستقبلٍ أفضل.
تُشكّل فجوة المهارات في العالم العربي عصَب هذه المعضلة الكبرى. فالأنظمة التعليمية، في الكثير من الأحيان، لا تزال تُركّز على التلقين النّظري وتغفل تطوير المهارات العملية والتطبيقية، بالإضافة إلى المهارات الناعمة (ذات الصلة بشخصية الفرد) التي أصبحت ضروريةً في سوق العمل الحديثة. وبينما يزداد الطلب العالمي والمحلّي على المهارات الرّقمية المتقدّمة، وتحليل البيانات، والذّكاء الاصطناعي، والأمن السيبراني، نجد أنّ مناهجنا لا تواكب هذا التطوّر المتسارع.
لا تهيِّئ جودة المناهج وأساليب التدريس والبنية التحتية التعليمية الخرّيجين للتنافس في سوق عمل ديناميكيّة
وتشير تقديراتٌ متخصّصةٌ إلى أنّ مجالات مثل الذّكاء الاصطناعي وتحليل البيانات تشهد نموًّا يصل إلى 30% سنويًا، بينما يتوقّع خبراء الأمن السيبراني أن تنموَ الحاجة إلى متخصّصين في هذا المجال بنسبة 40% سنويًا. هذه الفجوة بين ما يُدرَّس وما هو مطلوب تُترجَم مباشرةً إلى ارتفاعٍ صاروخيّ في معدّلات البطالة، ولا سيما بين الشباب وخرّيجي الجامعات.
تُظهِر تقارير "منظمة العمل الدولية" أنّ معدّل البطالة في المنطقة العربية يظلّ مرتفعًا بشكلٍ مقلقٍ، إذ يُتوقَّع أن يبلغ 9.8% عام 2024، وهو معدّل يتجاوز مستوياته السابقة لجائحة كوفيد-19. ويزداد هذا الرقم حدّةً بين الشباب، إذ تجاوز معدّل البطالة بين هؤلاء في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 24%، وهو معدّل يُعتبَر من بين الأعلى عالميًا. مثلًا، في بلدان مثل جمهورية مصر العربية والمملكة الأردنية الهاشمية، تُشكّل بطالة الشباب وخريجي الجامعات تحدّيًا اقتصاديًا واجتماعيًا ضخمًا، إذ يعاني الآلاف من حملة المؤهّلات العليا من صعوبةٍ بالغةٍ في العثور على فرص عمل تتناسب مع تخصّصاتهم.
لا يقتصر التحدّي على مجرّد عدم تطابق المهارات، بل يمتدّ إلى جودة التعليم بحدّ ذاتها. فعلى الرَّغم من الزيادة في أعداد الملتحقين بالتعليم العالي، قد لا تهيِّئ جودة المناهج وأساليب التدريس والبنية التحتية التعليمية الخرّيجين بالقدر الكافي للتنافس في سوق عملٍ ديناميكيّة. ويشير تقرير للبنك الدولي إلى أنّ شباب المنطقة العربية يحقّقون مستوياتٍ تعليميةً أعلى من الأجيال السابقة، إلّا أنّ هذا التحصيل لم يُترجَم بعد إلى فرص عمل ودخل أفضل، ما يشير إلى وجود خللٍ عميقٍ في العلاقة بين التعليم والتوظيف.
لا تتوافر للطلاب وأصحاب القرار بيانات كافية عن احتياجات السوق الفعلية
ويتفاقم الوضع بسبب هيكل الاقتصادات العربية الذي يعتمد في بعض البلدان في صورةٍ كبيرةٍ على القطاع العام أو على قطاعاتٍ محدودةٍ مثل النّفط والغاز. هذا الاعتماد يحدّ من قدرة القطاع الخاص على التوسّع وتوليد فرص عمل كافية لاستيعاب الأعداد المتزايدة من الخرّيجين. وبينما يُعَدّ القطاع الخاص المحرّك الرئيسي للتوظيف في الاقتصادات المتقدّمة، لا يزال حجمه وديناميكيّته في بعض البلدان العربية لا يرقيان إلى المستوى المطلوب، ما يُسبّب ضغطًا ضخمًا على القطاع العام ليقوم بدورٍ لا يستطيع تحمّله بمفرده، وِفق تحليلات منظمة العمل الدولية.
تُضاف إلى ذلك، الضغوط الديموغرافية، فالمنطقة تتمتّع بنسبةٍ عاليةٍ من الشباب في تركيبتها السكّانية، ما يعني دخول ملايين الشباب سوق العمل سنويًا، وهذا يتطلّب نموًّا اقتصاديًا ضخمًا ومتنوّعًا لتوليد فرص عمل كافية لهم، وإلّا تفاقمت مشكلة البطالة. كذلك، يُعتبَر نقص المعلومات الدقيقة والمحدّثة عن سوق العمل عاملًا إضافيًا يساهِمُ في المشكلة، إذ لا تتوافر للطلاب وأصحاب القرار بياناتٌ كافيةٌ عن احتياجات السوق الفعلية، ما يعوق عملية التوجيه الأكاديمي والمهني الفاعل.
(خاص "عروبة 22")