قضايا العرب

"تكوين".. التنويريون الجدد في مصر وموسم تفكيك السرديات

القاهرة - أحمد أبو المعاطي

المشاركة

أثارت مؤسسة "تكوين الفكر العربي"، التى أُعلن عن تدشينها في مصر مؤخرًا، موجة واسعة من الجدل، ربما لم تواجهها مؤسسة أهلية عُنيت بالفكر ونشر الثقافة والاستنارة في البلاد، منذ ظهور جمعية المعارف التي أسّسها محمد عارف باشا في نهايات القرن التاسع عشر.

رغم أنّ المؤسسة تقول في أدبيات تأسيسها إنها تستهدف تعزيز قيم الحوار البنّاء، ودعم الفكر المستنير والإصلاح الفكري، وقبول الآخر، والإيمان بمبادئ السلام بين المجتمعات والثقافات والأديان، إلا أنّ تلك اللافتة العريضة للرؤية والهدف، لم تصمد أمام عشرات من السهام التي انطلقت صوبها بعد أيام من التأسيس، وتجاوزت في تأثيرها حد مطالبة عدد من نواب البرلمان بإغلاقها، إلى تحريك بلاغات رسمية أمام مكتب النائب العام، تطالب بتوقيف مجلس أمنائها، الذي يضم ستة من أكثر الباحثين المصريين والعرب شغبًا وحضورًا عبر شاشات الفضائيات خلال العقدين الأخيرين، وتقديمهم إلى محاكمات عاجلة، في اتهامات تتعلق بـ"ازدراء الأديان، ونشر ثقافة الإلحاد"!.

الاتهامات التي طالت "تكوين" من كل جانب، لم تمنع عددًا من أعضاء مجلس أمنائها من الظهور تباعًا عبر شاشات الفضائيات المصرية، في محاولات لصد الهجوم، والتأكيد بوضوح أنّ المؤسسة في حقيقتها ليست سوى "مبادرة للتثقيف العام"، وأنها تطمح إلى أن تتحوّل إلى حاضنة للمفكّرين والكُتّاب العرب، وهو ما تجلى لاحقًا في سلسلة من التدوينات عبر منصة "X"، حرصت خلالها المؤسسة على تأكيد قناعاتها التي تنطلق من قاعدة فكرية ثابتة، تقول بأنّ الاختلاف هو مصدر الإبداع، وأنّ التفكير الدائم هو طريق التطوّر أمام البشرية، مشيرةً إلى أنها رغم حملات الهجوم غير المبرر، والاتهامات التي بلغت حد تكفير من يقومون عليها، إلا أنها نجحت في إحداث حالة من الحراك الفكري بالشارع العربي، بين مؤيد ومعارض، مجددةً الدعوة للجميع، إلى "الحوار بالقلم لا بالسكين".

اللافت أنّ التدوينات التي أطلقتها "تكوين"، وإن تميّزت بالهدوء والحكمة، في مواجهة حملات الهجوم العنيفة، لم تبدد حالة الشك الواسعة حول الأهداف الرئيسية من وراء تأسيسها، فكثير من الأحكام المسبقة التي طالت المؤسسة الوليدة، استندت بشكل كبير، إلى مواقف سابقة وأفكار لعدد من أبرز أعضاء مجلس أمنائها، أثارت جدلًا واسعًا خلال السنوات الأخيرة، وبخاصة ما يتعلق منها بفكرة التجديد الديني، ونقد التراث بشكل عام، بينما أي تصور للتجديد، أو تحديث ما يُسمى بالخطاب الديني يجب ألا يمس ثوابت الدين، أو يقترب منها بأي حال، بدلًا من الدخول في حالة من التناطح الذي لا يؤدي إلى أي نتيجة، مع القيم والتقاليد والثوابت الدينية الراسخة، حسبما ذهب بعض ناقديها من المفكّرين وأصحاب الرؤى.

يبدو تفكيك السردية الدينية، هو لب الأزمة بين مؤسسة "تكوين"، وقطاعات واسعة من المثقفين والسياسيين في مصر، وهو أمر ينطوي على خطورة شديدة، بحسب كثير من المراقبين، وقد بات بعضهم ينظر بكثير من التوجّس، للهدف الرئيسي من وراء تدشين المؤسسة التي لم تخفِ من جانبها أنّ أحد أبرز أهدافها بالفعل، هو العمل على الوصول إلى ما تصفه بـ"صيغة جديدة في النظر والتعامل مع الموروث الديني، خصوصًا بعدما أدت بعض تأويلاته القديمة بالمجتمعات العربية والإسلامية، إلى مآزق اجتماعية ودينية وفكرية، ما أدى بدوره إلى ظهور واحتضان مجتمعاتنا لأفكار متطرّفة وتأويلات رجعية، أساءت للدين الإسلامي ولمجتمعاتنا على سواء".

ينظر كثير من الرافضين إلى مؤسسة "تكوين الفكر العربي"، باعتبارها أداة جديدة تستهدف تفكيك الفكر العربي وإعاده بنائه من جديد، وفق رؤى غربية خالصة، وهي رؤية تتسق إلى حد كبير مع رؤية الخبير الأمني خيري شوكت الذي تحدث عن وثيقة هنري كامبل التي صدرت عام 1907، بعد اجتماع للدول الكبري حينذاك، واستهدفت تفكيك الوطن العربي، عبر زرع إسرائيل في فلسطين، والعمل باستمرار على منع نقل التكنولوجيا إلى الأمّة العربية، وإثارة النزاعات العرقية والطائفية بين شعوبها.

ويشير شوكت إلى أنّ الكاتب والباحث الفلسطيني الراحل أنيس الصايغ عكف لشهور يفتش عن تلك الوثيقة، في دار الوثائق البريطانية، ومكتبة المتحف البريطاني وجامعة كامبريدج، قبل أن ينتهي حسبما يقول في مذكراته إلى أنّ المحصلة كانت صفرًا، وقد كان حريًا أن تتسرّب هذه الوثيقة المفترضة عبر شقوق السنين، مثلما تسرّبت تاليًا وثيقة "سايكس – بيكو" التي فضحت مخططات التقسيم للمنطقة العربية.

ربما يكون الأقرب للدقة في تلك الأزمة الجارية في مصر، هو أننا أصبحنا بالفعل في قلب سردية جديدة، يمكن أن يطلق عليها سردية المستقبل، وهي السردية التي تعمل قوى خارجية عدة على تهيئة الأجواء لها منذ سنوات، بعد أفول السرديات الأربع الكبرى التي حكمت منطقة الشرق الأوسط قرابة قرن كامل أو يزيد، بدءًا بالعصرية النهضوية، ثم ظهور القومية العربية، ومن بعدها الاشتراكية الثورية، انتهاءً بالسردية الإسلامية.

يتجاوز ملف تجديد الخطاب الديني، حسبما يرى كثير من المراقبين في مصر، الدور الذي تزعم مؤسسة "تكوين" أنها سوف تعمل عليه في أدبيات تأسيسها، وينتهي بمؤسسة الأزهر، التي يحمّلها كثيرون مسؤولية إعادة صياغة هذا الملف بل والعمل على تعزيزه أيضًا، بالسعي الحثيث نحو التوفيق بين الدين والقيم العالمية الحديثة، ويقولون إنه ربما يكون المسار الوحيد الصحيح، بين مسارات عدة قد يخوضها مثقفون وباحثون مجدون، لكنها تظل في النهاية مجرد محاولات إصلاحية، في مواجهة تيارات راديكالية، لن يقدر على مواجهتها سوى الأزهر.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن