بصمات

"انتفاضة الطلاب".. وتحوّلات الحقل السياسي الغربي

كتب انطونيو بوليتو في صحيفة "كوريرا ديلا سيرا" الإيطالية (٢٧ أبريل ٢٠٢٤) محذرًا من أنّ ثورة الطلاب الراهنة في الجامعات الغربية، التي انطلقت احتجاجًا على العدوان الإسرائيلي على غزّة، قد تفضي كما حدث سنة ١٩٦٨ إلى توطيد الخيار المحافظ في الديمقراطيات الغربية.

تبدو هذه الاحتجاجات قريبة من انتفاضة الطلاب الأمريكيين والأوروبيين في مايو ١٩٦٨ من حيث شعاراتها الثورية الراديكالية وميولها اليسارية القوية، لكن الخشية قائمة من أن تكون ممهدة لعودة قوى اليمين القومي إلى واجهة الساحة السياسية في البلدان المذكورة.

بالنسبة للذين عاشوا أحداث ١٩٦٨ يذكرون أنّ التيارات الماركسية والتروتسكية حملت لواء الاحتجاج ورفعت شعارات حالمة من قبيل منع التحريم وتقويض سلطة الدولة المهيمنة وتحرير الرغبات والأهواء.. بيد أنّ نتيجتها العملية كانت انحسار اليسار الثوري وتراجع الطبقة العاملة وصعود الحركة النيوليبرالية في الولايات المتحدة وبريطانيا واليمين الليبرالي في فرنسا.

المعترك الأيديولوجي الراهن يتمحور حول ثلاث قوى: اليمين الشعبوي واليسار الشعبوي والنزعة السيادية الجنوبية

ولكن الفرق الأساسي بين الموجة الحالية وانتفاضة ١٩٦٨، على عكس ما يرى بوليتو، هو أنها جرت في ظرفية كانت سمتها الغالبة صعود الحركات الشعبوية اليمينية التي قضت على الأحزاب التقليدية من تشكيلات ديمقراطية اشتراكية وأحزاب وسط ليبرالي.

في الولايات المتحدة الأمريكية، تغيّرت نوعيًا تركيبة الحزب الجمهوري الذي أصبحت تتحكم فيه القوى الأصولية والجماعات العنصرية المتطرفة، في حين تفككت وحدة الحزب الديمقراطي المنافس بانقسامه بين المكوّن الليبرالي التقليدي والمكوّن الاحتجاجي الذي يتغذى من أفكار النزعات التفكيكية النقدية وما بعد الكولونيالية.

في أوروبا حدث الانقسام نفسه بين أحزاب اليمين الشعبوي التي كرست قطيعة حاسمة بين شرعية التمثيل الانتخابي والمنظومة المعيارية الليبرالية التي هي الخلفية الفكرية والقيمية للممارسة الديمقراطية، وأصوات اليسار الجديد الذي يقود الديناميكية الاحتجاجية في الشارع ويرفع المطالب الاجتماعية دون أن تكون له قاعدة انتخابية مكينة في مجتمعات يسيطر عليها شبح الخوف من الهجرة والإرهاب والتنوع الثقافي.

ما تعيشه بلدان الجنوب الشامل، في أفريقيا وآسيا، مغاير، حيث نلمس بوضوح تنامي النزعة السيادية المناوئة للمركزية الغربية وازدواجية المعايير في التعامل مع الملفات الدولية.

خلاصة الأمر أنّ المعترك الأيديولوجي الراهن يتمحور حول ثلاث قوى متمايزة هي: اليمين الشعبوي المرتكز على هاجس الهوية والنقاء العرقي والثقافي، واليسار الشعبوي الحامل لمشروع الحركية الاحتجاجية المدنية، والنزعة السيادية الجنوبية التي تبحث بوضوح عن نقطة ارتكاز جيوسياسية في مشاريع طموحة مثل كتلة "بريكس" والرابطة الأورو آسيوية.

في هذا الخضم، هل يمكن الرهان على انتفاضة الطلاب الحالية في كبح حركية صعود اليمين المتطرّف والأحزاب الشعبوية المحافظة؟

من الواضح أنّ البلدان التي دعمت الحق الفلسطيني في أوروبا وأمريكا اللاتينية هي التي تخلصت من سيطرة الشعبويات اليمينية الراديكالية، كما أنّ الدول الأفريقية التي وقفت ضد العدوان تشهد في أيامنا عودة قوية لشعارات التحرر الوطني وفك الارتباط مع مراكز الهيمنة الغربية.

استطاعت الحركة الطلابية أن توجّه النظر إلى اختلالات البناء القانوني والسياسي في البلدان الغربية

أما الطلاب المنتفضون في الجامعات الغربية فهم في الغالب متأثرون بحركة التمرّد والاحتجاح التي برزت في السنوات الأخيرة في الحقول الأكاديمية والثقافية، ضد العنصرية والاستغلال، وإن ظلّت أصداؤها محدودة في المجال السياسي والانتخابي.

لا شك أنّ الأمر يتعلق بشبكات رخوة، شديدة الاختلاف والتشتت من حيث تركيبتها التنظيمية، لكنها استطاعت أن تخلق الحدث وتوجّه النظر من خلال فظائع الحرب الإسرائيلية في غزّة إلى ثغرات وعورات النظام الدولي واختلالات البناء القانوني والسياسي في البلدان الغربية.

وهكذا نخلص في نهاية المطاف إلى رفض استنتاج بوليتو الذي يستبق فشل الحركة الطلابية ويتوقع صعود اليمين المحافظ، في حين نعتقد أنّ هذه الحركة مهما كانت نقاط ضعفها قد حملت صرخة قوية إلى الضمير الإنساني العالمي، ومن ثم يمكن القول إنها قد ضمنت النجاح المنشود في الأفق المنظور.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن