مراجعات

أسئلة "الدولة" اليوم في ضوء التحديات المحلية والعالمية

ما الذي يقف وراء الاشتغال اليوم على سؤال الدولة اليوم، سواء في المنطقة العربية أو في العالم بأسره؟ يستحضر القارئ هذا السؤال وهو يطلع على عنوان كتاب "في الدولة" للأنثروبولوجي المغربي محمد المعزوز، وتتضح معالم الأجوبة على السؤال نفسه مع قراءة فهرسه، الموزّع على مقدّمة وستة فصول وخاتمة، وخاصّة في العناوين الفرعية لتلك الفصول، لأنّها تطرق أبواب أسئلة كانت غائبة نوعًا ما في أغلب ما صدر من أعمال حول سؤال الدولة.

أسئلة

تطرقت فصول الكتاب إلى المقاربات النظرية لمفهوم الدولة؛ الدولة والتحوّلات الكبرى التي نعاينها عالميًا، من قبيل مأزق "المجتمع السائل" (في إحالة مفهوم السيولة الذي بلوره زيغمونت باومان، الحاضر هو الآخر في مراجع الكتاب)؛ السياسي في مواجهة التحوّلات العالمية نفسها؛ الرهانات المرتبطة بالديمقراطية ما بعد الحداثية، وقد تضمّن هذا الفصل محورًا حول قلاقل البيئة؛ آفاق البحث عن نماذج نظرية جديدة لمفهوم وواقع الدولة انطلاقًا من تجاوز منطق الثنائيات؛ وأخيرًا، دعوة مفتوحة للاشتغال النظري على هذا المفهوم الجديد للدولة انطلاقًا مما سبق من وقفات نقدية عند المنطلقات، التحوّلات، والتحديات التي تواجه الدولة.

ومن المفاتيح النظرية التي يُلح عليها المؤلف في هذا السياق النظري، نقرأ مثلًا، ثنائية الشفافية والمسؤولية، المشاركة المواطِنة، حماية الحقوقية الأساسية، تشجيع التعليم واقتصاد المعرفة، الإصلاحات المؤسّساتية، أو تكريس الإدماج الاقتصادي والاجتماعي، وهذا مفتاحٌ يتطلّب بدوره العروج على أدبيات الاقتصاد السياسي.

دور جديد للدولة يأخذ في الاعتبار أبعادها على المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتكنولوجية

الحديث عن غياب تلك الأسئلة في مجموعة من الإصدارات السابقة التي تطرقت لمفهوم الدولة، ليس لعدم تفطنها حينها، من قبيل أحد أهم هذه الأعمال هنا في المنطقة العربية، أي كتاب "مفهوم الدولة" لعبد الله العروي، وإنّما لأنّ التحديات المعاصرة التي يشتغل عليها محمد المعزوز في كتابه هذا، لم تكن حاضرة عند صدور "مفهوم الدولة" (1981)، من قبيل تأثير العولمة، والثورة الرقمية، وظهور أنماط سياسية ودينية عابرة للحدود تتطور خارج الدول، وتوجد هذه التحديات ضمن مجموعة استنتاجات تضمّنها الكتاب، وفي مقدمتها ما وصفه المؤلف بـ"الاستنتاج العام الأول"، ومفاده أنّ "مفهوم دور جديد للدولة يتطلب إعادة تعريف الدولة يأخذ في الاعتبار أبعادها على المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتكنولوجية". (ص 82)، ويُلحّ على الخلاصة في أولى صفحات الخاتمة (ص 243).

لكن الجدّة التي تُميّز هذا الكتاب الذي نصنّفه في خانة الفلسفة السياسية، تكمن كذلك في تواضع الاشتغال البحثي على سؤال الدولة هنا في المنطقة خلال العقد الماضي، وخاصة بعد أحداث 2011، مع استحضار التحديات أعلاه.

ليس صدفة أنّ الإحالة الوحيدة على الشأن الإقليمي العربي، جاءت في هامش الصفحة 245، في سياق تذكير المؤلف بأنّ بعض أنماط الدولة اليوم، توجد في "مرحلة متقدمة من التفكك"، وخصّ بالذكر أربع دول في الهامش نفسه، وهي ليبيا واليمن ولبنان والسودان.

ليس هذا وحسب، عاينا مباشرةً بعد اندلاع تلك الأحداث، صدور مجموعة أعمال بحثية عن أسماء محلية وإقليمية وغربية، حول الدولة العربية، لكن مع حضور استحضار ثنائية الدين والسياسية في معرض الاشتغال على الموضوع، من قبيل كتاب "روح الدين" للمفكر المغربي طه عبد الرحمن (من منظور صوفي صرف)، أو "الدولة المستحيلة" للمفكر الكندي من أصل فلسطيني وائل حلال، "الدولة العالقة: مأزق المواطنة والحكم في المجتمعات الإسلامية" للمفكر التونسي محمد الحداد، ضمن أعمال أخرى.

في هذه الجزئية الحسّاسة التي تتأسّس على ثنائية الدين والسياسة، كان المعزوز واضحًا، لأنّه لم يتطرق لها أساسًا، أو قُل كانت وقفاته عابرة، وذات صلة بالسياق النظري إجمالًا، في الساحة الأوروبية على الخصوص، مما يحيلنا على ميزة أخرى قد تكون في خانة الاعتراضات أو الملاحظات النقدية على الكتاب، ومفادها أنّ جميع المراجع التي جاءت في الكتاب (ثمانون مرجعًا ونيف)، يصب أغلبها في أدبيات الفلسفة السياسية، تهم مفهوم وواقع وأسئلة الدولة الوطنية الحديثة، وبالتالي، المؤلف غير معني بالخوض في الثنائية سالفة الذكر، خاصّة أنها كانت ولا زالت شائكة في محور طنجة جاكارتا، بدليل وجود عدّة أنماط من الدولة في هذا المحور (الملكية، الجمهورية، الإمارة، السلطنة)، وإذا ما فتح باب معالم هذه الأنماط من الدول في كتابه هذا، فعلى الأرجح، أنّ عدد صفحاته سيتجاوز رقم 253 صفحة، أي عدد صفحات الكتاب، الصادر مؤخرًا عن المركز الثقافي للكتاب (2024).

يميل دور  الدولة إلى التقلّص في مواجهة المنافسين الجدد

في معرض الجواب على السؤال أعلاه، بخصوص الدوافع التي تقف وراء اشتغال مفكّر عربي معاصر على سؤال الدولة اليوم، ونحن في مطلع الألفية الثالثة، يذهب المعزوز إلى أنّ هذا السؤال "يجد إجابة معقولة في التغييرات التي يشهدها العالم حاليًا، لأنّها متنوعة لدرجة أنّها هزّت بشكل عميق آليات التنظيم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والإداري". ونتيجةً لذلك، يضيف المؤلف، فإنّ "المهام المسندة إلى الدولة وهيبتها هي موضع شك. ويميل دورها كخبير استراتيجي ومنظّم إلى التقلّص بشكل متزايد في مواجهة المنافسين الجدد الذين لا سيطرة لهم، من قبيل أدوار المجتمع المدني، والمنظمات الدولية، والإمبراطوريات المالية، وعمالقة التكنولوجيا الجديدة، ــ يقصد منظومة "الغافام" (غوغل، آبل، فيسبوك، أمازون ومايكروسوفت) ــ والتجمّعات عبر الوطنية"، ومنافسين آخرين.

عمل بحثي جديد في المنطقة العربية، نزعم أنه يُجسّد إضافة نوعية للتأليف العربي الذي يهم حقل الفلسفة السياسية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن