كـم منَ الأفـكـار التي تـشُـدُّنـا إليـها، وقد يكـون لـها في نفـوسـنا وقْـعٌ سحـريٌّ من غيـر أن يكـون لها في الواقـع وجْـهُ فـائـدةٍ يـبـرِّر لنا انْـهِـواسَـنا بـها. ولو نحـن أخضـعـنـاهـا، لحـظـةً، للافـتحاص والتّـبـيُّـن لربّـما فـقـدت الكـثـيـر مـن بريـقـها الأخّـاذ الذي يَـنْـأخِــذُ بـه وعْـيُ المرءِ مـنّـا؛ وهو يتـلـقّـاهـا مسـتسـلـمًا لتـيّـارها. وكـمْ من أفكـارٍ اسـتُـحْـسِنَـتْ في النّـفـس، لكـنّـها لم تُـحْـدِث في الوعـي ذلك الوخْـزَ الإيـجابـيّ الذي يـوقِـظُـه من الرّكـود كمـا يوقِـظ المهـمـازُ الرّأسَ مـن الوَسَـن.
المعارف المُتَلقّاة من غير تمحيص تفضي بمتلقّيها إلى ما يشبه الانقياد الأعمى
ربّـما كـان يُـرتـاح إلى فـكـرةٍ مّـا لمجـرّد أنّـها تُـشْـبِـع شعـورًا جمـاليًّا أو نـفـسيًّا (= اللّـذّة)، وحتّـى من غـير دلـيلٍ، من الواقـع أو مـن الـفـكـر، يقـوم على وجـاهـتـها. ولعـلّـه يكـفـي النّـظـر إليها بعيـن المعـرفـة حتّـى تبـدوَ أفكـارًا عاريـةً عـن كـلِّ صـدْقـيّـةٍ وحُـجّـيّـة، بل حتّى تـصيـرَ محـضَ صُـوَرٍ فـارغـة غيـرِ قابـلـة للانطـبـاق على أيّ واقـع ولا نـابـعةٍ من أيّ نـظـامٍ فـكـريّ.
لسنا نشـكّ في أنّ مـا تـتـلـقّـاهُ النّـفـسُ باسـتحسـانٍ أقـلُّ مـرتـبـةً مـمّـا يتـلـقّـاهُ الوعـي بإيـمـانيّـةٍ معـرفـيّـة، حـتّـى لا نـقـول إنّـه في مـرتبـةٍ محطـوطـة إنْ قـيـسَ بالـثّـانـي؛ ذلك أنّ المشـعـورَ بـه أدنـى يـقيـنـيّـةً مـن المُـدْرَك بـما لا يـقاس لأنّـه (المشعـورُ بـه) إلى الانـطـباعـيّ أقـرب منـه إلى الواعي أو المُـدْرَك؛ ولأنّ معيـاره الذي بـه يقـاس ذاتـيٌّ صـرف وسيـكـولوجيّ وليس معيـارًا مـوضوعـيًّا ومعـرفـيًّا. هذا ما يفسّـر لماذا ظـلّـتِ "الأفكـار" التي منشـؤها الشّـعـورُ - مثـلها كـمـثـل التي منـشـؤها الحـواسّ - مـوضع ارتيـابٍ في كـلّ الفـلسـفات عبـر التّاريـخ حَـمـل الفلاسفـة والمـفـكّـرين على عـدم الاعـتـداد بمـعـطياتـها، بـل وعلى حسبـانها مغلـوطـة ومضلِّـلـة. فـوق هـذا، وبمعـزلٍ عـن أنّ استحـسانَ فـكـرةٍ أو اسـتــقبـاحَـها فـعْـلٌ ذاتـيّ انطبـاعـيّ متـغـيّـرٌ بـتـغـيُّـر الـذّوات التي تـأتيـه، قد يـقـود شـعـورُ الاسـتجابـة للـفكـرة، من غيـر تبـيُّـن، صاحـبَ ذلك الشّـعـور إلى الانـقـيـاد الأعمـى لِـمَـا يـتـلـقّـاه فيترتّب على ذلك ما يترتّب من جـسيـمِ التّـبـعات.
المعرفة تُقاس بمبدأ الواقع وضروراته لا بمقياسها ولا بمقياس الذّات والشّعور
على أنّ الانـطـبـاعـات ليست وحـدها تـقـود مـتـلـقّـي الأفـكـار إلى ذلك الانـقـيـاد الممجـوج، بـل حتّى المعـارفُ المُـتَـلـقّـاةُ من غير تـمـحيصٍ تـفـضي بـمـتـلـقّـيهـا إلى ما يشـبـه ذلك الانـقـياد الأعمـى. ماذا تكـون الإيـمانـيّـاتُ المطلـقة بالأشيـاء والأفكـار، واليـقيـنـيّـات الثّـابـتـة التي لا تـتـبـدّل، غـيرَ ذلك الضّـرب مـن الوعـي المسلـوبِ الإرادة الذي يسـقـط، مع الزّمـن وكُـرور المفاعيـل، إلى دوغـمـا تستـعـصـي على إرادة التّـحـرُّر المـعـرفيّ. صـحيـحٌ أنّـها قـد تـكـون مفهـومـةً في الإدراك الذي يغـلُـب عليه السَّـمْـتُ الإيـديـولـوجـيّ، بالنّـظـر إلى ارتـباطـه بالمصالـح، لكـنّـها في حسـبـان المعرفـة تصبـح عـائـقًا أمـام الإدراك المـوضوعـيّ.
لا مـهْـرب، إذن، مـن النّـظـر إلى المعـرفـة بما هـي حـاجـةٌ تُقاسُ بمـبـدأ الواقـع وضـروراتـه لا بمقـيـاسـها هـي، كمـعـرفة، ولا بمـقـيـاس الـذّات والشّـعـور. ومـفـاد ذلك أنّ المعـارف التي نـطلـبـها ونـنـصرف إلى تـنـميـة الوعـي بـها هي تلك التي تفيدُنـا في تقـديـم أجـوبـة ناجـعـة عن معـضـلات الواقـع: الإنسـانـيّ والاجـتـماعـيّ والطّـبـيـعيّ.
إنّـه (الواقـع) وحـده الرّائـزُ الذي عليـنـا أن نَـرُوز بـه ما بيـن أيـديـنا مـن مـتاحـاتٍ معـرفـيّـة وما نـتّـصـل بـه مـن مـرجـعـيّـاتٍ فـكـريّـة: قـديـمـها والحـديث.
(خاص "عروبة 22")