بصمات

هل استفادت الدولة العربية من العلمانية في بُعدها الإجرائي؟

لا بد لنا هنا أن نميّز، كما قال ذلك خوسيه خازانوفا José Casanova (1951/....)، ما بين: علماني، وعلمنة وعَلمانية، فالعَلماني هو الفضاء الذي يقابل الديني مثل السُّوق أو الفضاء العام، وعلمنة هي تجربة الحداثة الغربية في تطبيق هذا الفصل بين الديني والدنيوي، بينما العلمانية هي إرادة خفية لأجل تحويل التجربة العلمانية الغربية إلى نموذج أو فلسفة تاريخية تسري على الثقافات الأخرى، يتحوّل بموجبها الإنسان من الإيمان إلى عدم الإيمان، ومن الوعي الديني غير العقلاني إلى وعي علماني عقلاني.

هل استفادت الدولة العربية من العلمانية في بُعدها الإجرائي؟

وإذ تقرَّر هذا، فإنه يجدر بنا صرف القول إلى أنّ للعالم العربي خصوصية ثقافية لازمته في تاريخه، فلا يمكن أن نقرأ البنية السياسية العربية بمفردات الخطاب الحداثي السياسي، نظرًا للحمولة المعرفية والسياق التاريخي المختلف، فنحن هنا يلزمنا منهج الفهم وليس منهج التفسير، الفهم الذي يستمع لبنية الثقافة ويحلُّل عناصرها ويكاشف حدودها.

البنية السياسية في العالم العربي تتسم بطابع الانفصال وإدامة القطيعة بين مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع

العالم العربي يتوزع الفعل السياسي فيه بين الملكيات المطلقة، التي قد ترتكز على الدين كنظام رمزي، لأجل إدامة الحكم وبسط المشروعية السياسية، أو الأنظمة التي تتحكم فيها قوى؛ بلغة أفلاطون غير عاقلة، أي غضبية، وكلاهما لم يستطع أن يعيش تجرية علمانية على الأقل في نظامها القيمي والإجرائي: الحرية والتَّنسيق العقلاني وسلطة القانون وضمان الحقوق.

إنّ البنية السياسية في العالم العربي، تتسم بطابع الانفصال وإدامة القطيعة بين مؤسسات الدَّولة ومؤسسات المجتمع، فلا هي كانت علمانية بالمعنى الغربي، وحقَّقت النهضة والتقدم المادي، ولا هي حفظت للثقافة العربية خصوصيتها، بأن طوّرت منها منظورات في تدبير الشأن السياسي؛ بل هي إرادة خفية ترفع شعار هذا وذاك، لأجل تلبية دوافعها في الاستفراد بالملك أو تلبية دوافع القوة والهيمنة وقهر الحريات والعجز في المقابل عن تلبية تطلُّعات الشعوب.

اللَّاهوت السياسي تنحصر مطالب فكره في رسم الحيل لأجل تلبية دوافع القوة والهيمنة

وأمَّا الجهود الجديدة في قراءة العلمانية وتأويلها، مثل تشارلز تايلور Charles Taylor (1931/ ....) أو كازانوفا أو هابرماسJürgen Habermas (1931/...) فهي لا شك تتيح أدوات منهجية في فهم آخر للعلماني، يختلف عن العلمانية الفرنسية المتكلّسة والبئيسة، لأنّ فيها اعترافًا بالحقوق الثقافية وإقرارًا بقيمة الديني في جذب الجماهير وتأسيس الجماعات الدينية، وفيها أيضًا، تعيين لدور جديد للدولة، دور لا ترفض بموجبه سياسات الدّولة الاتجاهات الدّينية أو الدين في الفضاء العام، وإنما ترسم الضَّوابط الأخلاقية التي تُلْزِمُ بها الجماعات السياسية في تسير النظام السياسي، ولكن، ما يؤسف له أنّ هذه الاتجاهات فعلًا مفيدة نظريًا لأجل فهم جديد لعلاقة الدولة بالدين، لكنّها من الناحية الواقعية تواجه صعوبات في العالم العربي، بسبب الأنظمة الشمولية أو اللَّاهوت السياسي الذي لا يرغب في أن ينفتح على هذه المستجدات، بل تنحصر مطالب فكره في رسم الحيل لأجل تلبية دوافع القوة والهيمنة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن