المفارقة هنا أنّ الجمهورية الإسلامية التي ثارت ضد منهج الشاه، الذي كان تحالف مع الولايات المتحدة وأوغل في العداء للعرب والروس، قد انتهت فعليًا إلى التحالف مع روسيا، فيما أوغلت أكثر في العداء للطيف العربي السني، وهو الموقف السلبي الذي يجمع بين القوميين والإسلاميين الإيرانيين، لدوافع مختلفة على الجانبين؛ فالقوميون اعتبروا العرب، من منظور علماني، مجرد شركاء في إرث تاريخي متخلف لا بد من تجاوزه بغية تحقيق التقدّم، وهي لوثة عقلية كانت أصابت الأتراك قبل نحو القرن. أما الإسلاميون فأخذوا على العرب سنيّتهم الغالبة، ورفضهم استيراد الثورة الشيعية، المحمّلة بسلطة الولي الفقيه.
وفي المقابل بلغ الشعور العربي بالتناقض مع إيران ذلك الحد الذي برر الحديث، في لحظة ما، عن تأسيس ناتو عربي سنّي بقيادة أمريكية لمحاصرة إيران الشيعية، مثلما كان الناتو الأوروبي حاصر روسيا السوفيتية. بالطبع كانت إسرائيل مؤيدة لمثل هذا الحلف ولو من خلف ستار، باعتبارها "الصديق العاقل" للعرب في مواجهة الجار الإيراني المتهوّر.
ومن المؤسف أنّ بعض العرب قد استسلموا لهذا الفهم إلى درجة بات معها كل خبر سياسي جيد لإيران، كتوقيع الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة في حكم باراك أوباما، بمثابة صدمة أفزعتهم. وكل خبر سيّئ لطهران بمثابة فتح لهم، على منوال انسحاب الرئيس ترامب من الاتفاق نفسه، وقيامه بإعادة فرض العقوبات على إيران وإعلانه الحرس الثوري الإيراني منظمة إرهابية.
الخروج من العماء التاريخي يقتضي أولًا الخروج من كهف الإسلام السياسي إلى فضاء إسلام حضاري منفتح
هذا الفهم يتأسس على أخطاء رهيبة في الحساب السياسي والإستراتيجي، يكاد يبلغ حد العماء التاريخي، فالعرب وإيران ليسا عدوين جوهريًا، بل أسيران لوعي زائف، وليد لحظة تاريخية معتمة تذكرنا بسابقاتها، حيث كان السلاطين المسلمون يتقاتلون فيما بينهم والتتار على مشارف بغداد. أو كان الصليبيون يشنون الحملة إثر الأخرى على الشمال العربي الممزق بين ولاة وأمراء لا يفهمون في شؤون الحكم والإستراتيجية شيئًا، يتصورون أنّ عدوهم سوف يشبع بهضم جيرانهم ويدير رأسه عنهم. أو كان الأمويون يتحالفون خلالها مع بيزنطة البعيدة عنهم في مواجهة العباسيين المجاورين لبيزنطة، فيما يتحالف العباسيون مع حكام الدول الإقليمية الناشئة في غرب أوروبا من رحم الإمبراطورية الرومانية المقدّسة، ضد الأمويين في الأندلس.
إنها اللحظات التي أدانها التاريخ اللاحق عليها، حتى بتنا نشعر بالعار نحوها، لكننا للأسف نكاد نجعل من زماننا لحظة عار جديدة، لا شك في أنها سوف تُخجل من يأتون بعدنا.
أسهم في صنع تلك اللحظة المعتمة أيديولوجيات التأسلم السياسي بقصر نظرها الثقافي، ونزعاتها المذهبية، وانحرافاتها الطائفية. ما يعنى أنّ الخروج من العماء التاريخي يقتضي أولًا الخروج من كهف الإسلام السياسي إلى فضاء إسلام حضاري منفتح، يسمح بالاختلاف في إطار الوحدة، ويضع القربى الدينية فوق الاختلاف المذهبي، ويرى في القرب الجغرافي ركيزة للتشارك في المصالح وليس التصارع على الحدود. إلى إسلام متمدّن يرفض الإكراه على المذهب لأنه من الأصل لا إكراه في الدين.
إحياء مفاهيم الأمن الجماعي العربي سبيل وحيد لإحداث تغيّر أساسي في توازن القوى
والسؤال الجوهري هنا: لماذا لا يشرع العرب في الحوار مع إيران بدلا من إضاعة الوقت والجهد في مجرد رد الفعل على سياسات الجماعات والحركات الراديكالية المرتبطة بها؟. وإذا كانت إيران حاضرة واقعيًا في شتى القضايا العربية على النحو الذي يؤكد عليه من يسخطون عليها، فلماذا لا يتم الحوار معها حول تلك القضايا، حتى لا تبقى مثل "فاعل شبح" يطرح تأثيراته من داخل فضاء مظلم، على نحو يمنحه فرصة التأثير، وفي الوقت نفسه يعفيه من عبء الحساب؟.
الحوار هنا ليس دعوة للتسليم بهيمنتها، بل إلى خوض مباراة سياسية معها، تستلزم وضع استراتيجيات طويلة وتبني تكتيكات عملية، وجميعها يفترض إحياء مفاهيم الأمن الجماعي العربي كسبيل وحيد لإحداث تغيّر أساسي ليس فقط في توازن القوى بين العرب وإيران، بل أيضًا في توازنات القوى بين العرب وعدوهم القومي والحضاري، ممثلًا في الدولة الصهيونية، التي لا مفر من بناء تحالف استراتيجي من دول المشرق العربي الإسلامي ضدها، يستطيع ضرب الحصار حولها، وربما القيام بعملية طرد مركزي لها بعد كل ما ارتكبته من مجازر تملأ الذاكرة وتستعصي على النسيان.
(خاص "عروبة 22")