تقدير موقف

معادلات التغيير في إيران

شكّلت الثورة الإيرانية (1979) حدثًا فارقًا في تاريخ الشرق الأوسط، وكانت بداية تأسيس "محور الممانعة"، وأيضًا في التوقيت نفسِه وقَّع الرئيس أنور السادات على معاهدة السلام المنفردة بين مصر وإسرائيل ليعلن انطلاق تيّار التسوية السلميّة في العالم العربي.

معادلات التغيير في إيران

بدت مفارقة العلاقات المصرية – الإيرانية، أنّه في الوقت الذي غيّرت فيه مصر توجّهاتها السياسية وانفتحت على أميركا والغرب ووقّعت اتفاق سلام مع إسرائيل، قامت إيران بفعل العكس وأسّست نظامها الثوري الذي وصف أميركا بـ"الشيطان الأكبر"، وحاولت تصدير ثورتها إلى العالمَيْن العربي والإسلامي وفشلت. وبعدها، اعتمدت سياسة "الأذرع" أو الوكلاء الذين ظلّ النظام السياسي الإيراني يعتمد عليهم في تدخّلاته في شؤون الدول الأخرى، وحماية مشروعه السياسي والنووي على السواء.

إمكانيّة التغيير في إيران واردة وإمكانيّة الإصلاح محتملة ولكن من داخلها وليس من خارجها

إنّ السؤال الذي طُرِحَ قبل وعقب الحرب الإيرانية - الإسرائيلية: هل يمكن أن تتغيّر إيران؟ وكيف؟ تتطلّبُ الإجابة عليه مناقشة ما طُرِحَ قبل الحرب وأثناءها، وهي فكرة تصنيع بدائل خارجيّة للنظام الإيراني تفرض على المجتمع الدولي تدخلًا شبيهًا بالتدخل العسكري الأميركي في العراق في 2003. وعزّز من هذا الطرح ما جاء على لسان نتنياهو، عشية بدء الحرب مع إيران، أنّه "يجب إسقاط النظام"، أو كما قال دونالد ترامب "يجب أن تستسلم"، وثبت عمليًا استحالة تحقيق هذَيْن الهدفَيْن.

إنّ التفوق الإسرائيلي الجوّي والاستخباراتي على إيران لم يمنع طهران من الردّ والردع، وهو ما جعل هناك تغيّرًا واضحًا في الأهداف التي طُرِحت بداية الحرب، فتراجع نتنياهو عن تصريحاته الأولى، وقال: "الشعب الإيراني هو الذي سيقوم بالتغيير"، وذكر ترامب أنّ "إسقاط النظام سيجلب الفوضى".

والحقيقة أنّ إمكانيّة التغيير في إيران واردة وإمكانيّة الإصلاح محتملة، ولكن من داخلها وليس من خارجها عبر حربٍ أو غزوٍ عسكريّ، وأنّ السؤال حول نتائج الحرب الأخيرة على المجتمع الإيراني الإجابة عليه، بخاصة بعد الأضرار التي لحقت بالمفاعلات النووية واستهداف قادةٍ عسكريّين من الصف الأول وعلماء ذرة (قتلت إسرائيل 17 عالمًا نوويًا إيرانيًا) نتيجة اختراقاتٍ استخباراتية، كما أنّ بطء أداء منظومة حكم المُرشد في التعامل مع تداعيات الحرب، وضعف المعرفة بما يجري في العالم، عمّق من الأسئلة المتعلّقة بمستقبل موقع المرشد وليس بالضرورة شخصه.

المؤكد أنّه بعد توقّف الحرب وتراجع "الإجماع الوطني" الذي يناله أي نظام سياسي في مواجهة العدوان الخارجي، فإنّ هناك أسئلةً سيطرحها الناس حول جدوى المنشآت النووية ونِسب التخصيب المرتفعة، خصوصًا في ظلّ تمسّك إيران بشروطها ورفضها التعاون مع "الوكالة الدولية للطاقة الذرية"، وهو ما تعتبره القوى الكبرى تهديدًا، وترى أنّ طهران تعمل على امتلاك قنبلةٍ نوويةٍ تُمثّل خطرًا على جيرانها والمجتمع الدولي.

مجلس تشخيص مصلحة النظام يسمح فقط بمرشحين محافظين مدعومين من المرشد أو إصلاحيين يرضى عنهم المرشد

والسؤال الذي سيُطرح في المستقبل المنظور: هل يمكن أن تُبقيَ بلدًا إلى ما لا نهاية يعاني من العقوبات، حتّى لو صمد وأبدى قدرةً على المناورة؟ المؤكّد أنّ هناك الكثير من الشباب الإيراني يرغب بأن يعيش حياته بشكلٍ طبيعيّ ويسافر إلى دنيا الله الواسعة من دون قيود المقاطعة والعقوبات.

أسئلة ما بعد الحرب، في أي مجتمعٍ حيويّ مثل المجتمع الإيراني، ستُطرح على الرَّغم من القيود المفروضة على القوى السياسية والتيّارات الإصلاحيّة، وأنّ تجربة إيران تقول إنّها بدأت بتنافسٍ سياسيّ وانتخابيّ في إطار الدستور والقانون بين المحافظين والإصلاحيّين حتى انتخابات 2009 الرئاسية، والتي انتهت بهزيمة المرشّح الإصلاحي حسين مير موسوي ووضعه تحت الإقامة الجبرية.

ومنذ ذلك التاريخ، أصبحت إيران تعرف تنافسًا محكومًا بمنظومة المرشد "وفلتر" مجلس "تشخيص مصلحة النظام" الذي يسمح فقط بمرشحين محافظين مدعومين من المرشد، أو إصلاحيين يرضى عنهم المرشد.

المرشد رأس السلطة الحقيقية وإذا استطاع المجتمع الإيراني أن يحلّ هذه الإشكاليّة سيُغيّر ذلك ربما خريطة الشرق الأوسط

وقد تكون الاحتجاجات التي شهدتها إيران في 2022 عقب مقتل الشابة "مهسا أميني" على يد "شرطة الأخلاق" أثناء احتجازها بسبب عدم ارتدائها الحجاب بشكلٍ مناسبٍ، ورُفعت فيها شعارات ترفض حكم المرشد ونظام الجمهورية الإسلامية برمّته، دليلًا على أنه صار هناك تيارٌ متزايدٌ يرغب في تقليص صلاحيّاته السياسية والإبقاء عليه كرمزٍ دينيّ وروحيّ مستمدٍّ من الثقافة الشيعية، وباتت هناك فرصٌ لتحقيق هذا الهدف بشكلٍ تدريجيّ، بخاصة إذا غاب المُرشد الحالي وجاء بدلًا منه شخصيّة غير معروفة ولا تمتلك التأثير الداخلي نفسه الذي تمتّع به المرشد المؤسّس آية الله الخميني أو المرشد الحالي علي خامنئي.

إنّ رأس السلطة الحقيقية في إيران هو رجل دين، أي مُرشد الجمهورية المُرتبط بنظريّة "ولاية الفقيه" التي وضعها الإمام الخميني، وليس الرئيس المنتخب من الشعب، وإذا استطاع المجتمع الإيراني أن يحلّ هذه الإشكاليّة مستفيدًا من رغبة أطرافٍ كثيرةٍ في الحفاظ على إيران، لكي تصبح في الوقت نفسه دولةً طبيعيةً بلا أذرع تدخل في شؤون الدول الأخرى، ولا سلطة دينيّة فوق السلطة المدنية، سيكون ذلك تَحَوُّلًا جللًا إنْ حدث، وسيُغيّر ربما خريطة الشرق الأوسط!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن