سؤال بسيط ومباشر، لكنّ إجابته ليست بهذه البساطة، لأنها تحمل عناصر من الإجابتين المتوقعتين. الخلاف بين طرفي المكوّن العسكري "الجيش- الدعم السريع" امتدّ لأشهر طوال، وحدثت قطيعة بين الجنرالين البرهان وحميدتي، رغم أنّ أحدهما رئيس الدولة والثاني نائبه. ثم تواصلت عمليات الشحن والتعبئة ووصلت لمرحلة التراشق الإعلامي بين الطرفين. من هذا الباب فقد كان الصراع العسكري متوقعًا بحسب هذه البدايات.
حين اندلعت الحرب كان هناك سيناريو واحد... لكن النتيجة خالفت التوقعات
من ناحية ثانية كانت عمليات الوساطة الداخلية والخارجية تتسابق فيما بينها محاولةً الوصول لاتفاق ما بين الرجلين، وخرج معظم الوسطاء بانطباع أنّ الرجلين لا يرغبان في الحرب، وأنهما يفضّلان أن يتصارعا في الجبهات السياسية والإعلامية بدلًا من الميدان العسكري، وأنهما يستخدمان الحشد والتعبئة العسكرية كوسائل ضغط واستعراض للقوة، ليس أكثر. لكن، وكما يقول الخبراء، فإن للحرب ميكانزماتها الخاصة والمستقلة عن نوايا الأفراد، خاصةً إذا كان هناك تراكمات سلبية وتاريخ مسكوت عنه يمكن أن يجد الفرصة فينفجر.
حين اندلعت الحرب كان هناك سيناريو واحد مسيطرًا على الساحة، تختلف النفاصيل والتقديرات للمكاسب والخسائر، لكن ظلّ جوهر السيناريو واحدًا، وهو أن الجيش سيسحق "الدعم السريع" في الخرطوم في غضون أيام. تختلف تقديرات الأيام، وكذلك حجم وتقديرات الخسائر في الأرواح وتلك التي ستلحق بالبنيات الأساسية في العاصمة، كما تختلف التقديرات حول ما سيجرّه ذلك على ولايات دارفور واحتمال تشرذم قوات "الدعم السريع" وتحوّلها لمجموعات تهدّد الطرق والمسارات في المنطقةـ لكن لم يكن هناك شك في حسم الجيش للمعركة في أيام قليلة، بحكم امتلاك الجيش لأسلحة متنوعة ومتطورة لا يملكها "الدعم السريع"، مثل سلاح الطيران، المدرّعات، المظلّات، وبحكم أنه يتكوّن من عناصر محترفة، بعكس "الدعم السريع" صاحب الخبرة والأسلحة المحدودة.
معروف بعد ذلك لكل متابع أنّ النتيجة خالفت التوقعات، وأن قوات "الدعم السريع" استولت على معظم المواقع العسكرية، وانتشرت في مدن العاصمة الثلاث، في حين تراجع الجيش لثكناته، وظهر القصور الواضح بالجيش فيما يتعلّق بالمشاة في حرب مدن لا يمكن أن يحسمها سلاح الطيران وحده.
الحقائق على الأرض تقول إن الطرفين في حالة إنهاك، ولن يستطيع أي طرف حسم المعركة عسكريًا
منذ الأسابيع الأولى التقى الطرفان في منبر جدة بوساطة سعودية أمريكية، وخاضا جولات من الهدن واتفاقات وقف إطلاق النار، ثم انفضّ المنبر بعد اقتناع الوسطاء بعدم جدية والتزام الطرفين بما يتمّ الاتفاق عليه. ثم بادرت منظمة الإيقاد التي تضمّ ثماني دول من شرق أفريقيا، بما في ذلك السودان، بطرح مبادرة لوقف الحرب لم تجد موافقة من الحكومة السودانية، لاعتراضها على تولي الرئيس الكيني وليام روتو لرئاسة لجنة الوساطة، ولاشتمال المبادرة على مقترح بارسال قوات من قوة شرق أفريقيا الاحتياطية للفصل بين الطرفين المتحاربين، وصدور دعوات لحظر الطيران الحكومي.
أخيرًا انعقدت قمة دول جوار السودان التي دعت إليها مصر، وخرجت بتوصيات متشابهة لما سبقها من مواقف، لكنّ الجديد فيها هو وجود مصر في الساحة واتفاق دول جوار السودان، رغم ما بهم من خلافات، على ضرورة وقف الحرب في السودان، فما هي السيناريوات المتوقعة...؟
الحقائق على الأرض تقول إن الطرفين المتحاربين في حالة إنهاك، ولن يستطيع أي طرف أن يحسم هذه المعركة عسكريًا، وبالتالي فحظوظ سيناريو الحل العسكري صارت صفرية، بما يعني أنّ الظروف صارت ملائمة لاتفاق على وقف اطلاق نار دائم والبدء في مناقشة جذور المشكلة وفقًا لسيناريوات متعددة.
هناك سيناريو العودة لمنبر الإيقاد بعد دمجه مع مقترحات دول جوار السودان، وزيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لنيروبي للمشاركة في القمة التنسيقية الأفريقية شهدت لقاءات مع عدد من الرؤساء، وكان موضوع السودان حاضرًا. هذا الأمر لن يتحقّق ما لم يتم تعديل مقترحات قمة الإيقاد السابقة وتخفيفها بشكل يرضي الحكومة السودانية، وبوجد دورًا أكبر لمصر.
منبر جدة مفتوح بلا اشتراطات مسبقة وأمامه فرصة للنقاش والحوار والمناورة لتتحدّد المواقف النهائية
السيناريو الثالث، وهو الأقرب للتحقق، هو العودة لمنبر جدة، وقد بدأت بوادره بتوجه وفود الطرفين إلى المملكة، ومن الواضح أنّ الوسطاء سيكونون أكثر حرصًا هذه المرّة على الضغط أكثر على الطرفين للوصول لنتائج ميدانية، ثم الانتقال للمرحلة الثانية لمناقشة قضايا الحكم والسياسة بعد توسيع المنبر.
الطرف الحكومي يرى أنّ منبر جدة مفتوح بلا اشتراطات مسبقة، بعكس منبر الإيقاد، بالتالي أمامه فرصة للنقاش والحوار والمناورة حتى يحسم الصراع الداخلي بين الأجنحة المختلفة داخل القيادة العسكرية السياسية، لتتحدّد بعد ذلك المواقف النهائية. أما قوات "الدعم السريع" فهي بعد الشهر الأول صارت مستعدة لأي مبادرة تؤدي لوقف إطلاق النار، ليس حبًا في السلام بالضرورة، لكن لسببين، الأول أنّ الحرب أدت غرضها الأساسي وأثبتت أنها قوة لا يُستهان بها وبطريقة ما لديهم الإحساس بأنهم انتصروا على مجموعة القيادة العسكربة الحالية. والسبب الثاني أنه ومع الانتصارات العسكرية إلا أنهم يخسرون كل يوم الموقف الشعبي، بسبب الانتهاكات الكبيرة التي ارتكبوها وفجّرت غضبًا شعبيًا تجاههم، مع عدم قدرتهم على ضبط أفراد القوات التابعة لهم.
(خاص "عروبة 22")