تجربة المصريين طوال القرنين الماضيين، مضافًا إليها خبرة السبعين سنة الأخيرة، تثبتان بما لا يدع مجالًا للمماطلة أو التسويف أنه لا إصلاح حقيقيًا في مصر بدون إعادة التوازن بين المجتمع والسلطة.
هذا التوازن الذي اختلَّت قوائمه، وكُسرت أجنحته، وتضعضعت قوته، منذ اعتلى محمد علي باشا دكة الحكم، وإلى يوم الناس هذا تعيش مصر منذ قرنين حالةً متصلةً ومتواصلة من اختلال التوازن بين سلطةٍ قاهرة، وشعبٍ أعزلٍ.
لم يتحقق لمصر أي انجاز حقيقي إلا عبر حضور الشعب ومشاركته في صناعة القرار الوطني
في حضور الشعب، وبقوى المجتمع الحيوية استطاعت مصر مواجهة حملات غربية استهدفت احتلال الأرض ومصادرة الإرادة الوطنية، تخلصت من الحملة الفرنسية، وصدت حملة إنجليزية، وفي ذروة الحضور الشعبي استطاعت الإرادة الوطنية أن تفرض على السلطان العثماني خلع واليه، وتعيين الوالي الذي ارتضاه الشعب.
لم يستطع محمد علي باشا أن يطمئن فوق دكة الحكم إلا بعدما قضى على ما تبقى من قوة المماليك، واحتوى قوة الشعب المنظّم والمسلّح التي جاءت به إلى السلطة.
طوال القرنين الماضيين لم يتحقق لمصر أي انجاز حقيقي إلا عبر حضور الشعب ومشاركته في صناعة القرار الوطني على أرض بلده.
التفاف الشعب حول ثورة العرابيين هي النموذج الأوضح في التعبير عن هذه الظاهرة، وقد وضعت الأساس للربط بين النضال الوطني للانعتاق من النفوذ الغربي ومقاومة التدخلات الأجنبية وبين تحويل حكم مصر إلى نظام يسمح بأوسع مشاركة وطنية، مشاركة تؤدي إلى تقليص دور الحاكم المنفرد بتقرير أمور البلاد والعباد. وكان دستور 1882 هو الإنجاز الأول على هذا الطريق الطويل.
وقد وصل الوعي بهذا الارتباط بين المطلبين الوطني والديمقراطي إلى ذروته حين خرجت الملايين من أبناء الشعب في مارس 1919 ثائرة كالبحر الهادر في مواجهة حاسمة مع الاحتلال والاستبداد معًا، في واحدة من أكبر وأعظم ثورات الشعب المصري. وكان دستور 1923 هو الإنجاز الأهم في تلك اللحظة من تاريخ المسيرة الوطنية.
المؤسف أنّ سلطة الحكم الوطني بعد أن نجحت في إسقاط أسرة محمد علي، وتحقق على أيديها حلم إخراج الإنجليز من مصر، لم تستطع أن تعي الدرس، وأغفلت ذلك الرابط العضوي بين حرية الشعب واستقلال إرادته الوطنية وبين تعظيم قدرته على المشاركة في حكم نفسه.
حققت ثورة يوليو/تموز الكثير من الإنجازات على صعيد استقلال القرار الوطني، وأنجزت الكثير من الاختراقات على محور العدالة الاجتماعية، رغم ذلك تمثّل مقتل التجربة الناصرية في سلطويتها، وقد اعترف عبد الناصر بأنّ خطأ التجربة الأبرز هو النظام السياسي الذي أقامته فوق الكثير من الإجراءات الاستثنائية التي نفذت منها القوى المضادة للثورة لتقضي على كل أثرٍ من إنجازاتها.
في الجمهوريتين، جمهورية عبد الناصر المغدورة، ثم جمهورية السادات المستمرة حتى اليوم، ظل اختلال التوازن بين السلطة والمجتمع قائمًا.
ابتعث الأمل في تجاوز هذا الخلل، والتعافي من هذا الاختلال حين تفجرت ثورة يناير 2011، ثم في موجتها الثانية في 30 يونيو ثبت للجميع أنه إذا حضر الشعب بطُل التسلّط، وعاد التوازن إلى ميزانه السليم.
كان الحضور الشعبي في يناير 2011 هو البطل، ومن ثمَّ صار إعادة تغييبه فيما بعد هو الهدف.
بعد 3 يوليو 2013 جرت في مصر أكبر وأشرس عملية ممنهجة لإعادة تكريس التوازن المختل بمزيد من التعديلات القانونية وبعديد الإجراءات الاستثنائية، والتوسّع في سياسة القهر وكتم الأصوات وتسييد الصوت الواحد، وتقييد حركة المجتمع المدني ومحاصرة الأحزاب وحصرها في مقراتها لنعود من جديد أمام المهمة نفسها التي طرحت على الحركة الوطنية الديمقراطية طوال القرنين الماضيين.
لن يكون مقبولًا استمرار انصياع الأنظمة العربية لقوى الخارج في الوقت الذي تمارس فيه الإذلال والقهر في الداخل
ذلك المسار الطويل من التسلط والقهر والتصرف في شؤون البلد دون الرجوع إلى أهلها لا طريق للخروج منه إلا بمواصلة الحركة على جبهة إعادة التوازن بين المجتمع والسلطة، وتحجيم قدرتها على التسلط أولًا، ونزع كل أسلحتها التي تستخدمها في قهر المواطن.
لا تعاني مصر وحدها من ذلك التوازن المختل بين المجتمع والسلطة، ولا شك في أنّ واحدة من ارتدادات "طوفان الأقصى" وتوابعه ستكون بعثًا جديدًا لحيوية قوى المجتمع في كثيرٍ من البلدان العربية، ما يشكل تهديدًا لبقاء ذلك الاختلال في التوازن لمصلحة السلطات القاهرة والمهيمنة.
لن يكون مقبولًا استمرار معادلة انصياع الأنظمة العربية لقوى الخارج في الوقت الذي تمارس فيه سياسة الإذلال والقهر في الداخل.
الأمل معقود على أن تجرف ارتدادات الطوفان أزمنة متعاقبة من التسلط، وتصنع ربيعًا عربيًا جديدًا وحقيقيًا.
(خاص "عروبة 22")