أثارت الواقعة في حينه سخطًا وتذمرًا كبيرين من لدن المغرب، لا سيما وأنّ مداد اتفاقية التطبيع الموقعة بالرباط، لم يجف بعد، والتي بمقتضاها اعترفت إسرائيل رسميًا بالسيادة الكاملة للمغرب على هذه الأقاليم.
لم تكن الواقعة فريدة. لقد كانت لها سابقة مشابهة، إذ في ديسمبر/كانون الأول من العام 2020، ظهر نتنياهو في مقطع فيديو وعلى خلفيته الخريطة نفسها المثيرة للجدل. عَبّر المغاربة من جديد عن تذمرهم، واعتبروا، كما في الحالة السابقة، أنّ الأمر استفزاز بيّن، وتنكر للاتفاقية الموقعة بين البلدين وبإشراف أميركي مباشر.
اعتذر الإسرائيليون للمغرب واعتبروا، كما في الحالة الأولى، أنّ الأمر لا يخرج عن كونه مجرد خطأ عابر، وأنّ "الخريطة قديمة، ولم يكن هناك نسخة محدثة متوفرة في الوقت ذاته، باستثناء الخط الحدودي بين المغرب والصحراء".
تمّ ترميم الخطأ من حينه، فاستمرت العلاقة بين البلدين على طبيعتها، خصوصًا في أعقاب رسالة نتنياهو للملك محمد السادس التي أكد فيها ألّا تغييرًا في موقف الحكومة الإسرائيلية بشأن الاعتراف بسيادة المملكة المغربية على أراضيها الجنوبية".
بيد أنّ واقعة "طوفان الأقصى" أعادت من جديد طرح مسألة العلاقة مع إسرائيل، ومطالب شرائح واسعة من المغاربة بإلغاء التطبيع، وقطع العلاقات مع دولة تجاوزت في بطشها بالفلسطينيين، كل القوانين والأعراف.
إسرائيل تبتز المغرب لاستدراج الجزائر
في غمرة الحرب الظالمة على غزّة، استضافت القناة الفرنسية "إل. سي. إي" في 31 مايو/أيار الماضي، رئيس وزراء إسرائيل لتبرير حربه على غزّة، فأشهر في بعض محاور الاستجواب، خريطة لبلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يظهر فيها المغرب من جديد دون أقاليمه الجنوبية. اختير لخريطة البلدان إياها وضمنها المغرب، لون أخضر ساطع، فيما أفرد اللون الأبيض لجغرافيا الصحراء المغربية، فبرزت خريطة المغرب بلونين، يبين الأبيض فيها ألّا علاقة له بالأخضر المميز للمغرب ولباقي البلدان المعروضة بالخريطة.
بهذه النازلة أيضًا، شعر المغاربة بالاستفزاز من جديد، واعتبروا أنّ الأمر لا يمكن أن يكون من نطاق الخطأ، بل هو فعلٌ مقصودٌ، على الأقل بمقياس أنّه تكرّر لأكثر من مرة. اعتذر الإسرائيليون، كما فعلوا من ذي قبل. دفعوا مرة أخرى بمسوغ الخطأ، ووعدوا بالتدارك.
هذه بعض العناصر في أسباب النزول. أمّا في الخلفية، خلفية إمعان إسرائيل في بتر خريطة المغرب، فإنّ الأمر لا يمكن أن يكون بنظرنا من باب الخطأ المجرّد، وذلك لسببين اثنين:
- الأول، لتوافر عنصر العود، بلغة أهل القانون. إذ لو سلّمنا بإدراج الحالتين الأولى والثانية، ضمن مضمار خطأ تمّت معالجته بالاعتذار، فإنّ الحالة الثالثة تشي بأنّ الأمر قد بات مقصودًا ومفكّرًا فيه. لقد تجاوز الخطأ وتحوّل إلى خطيئة.
- السبب الثاني، لأنّ مكتب رئيس وزراء إسرائيل يعج بالخبراء في التواصل السياسي وفي علم النفس وتقنيات تحليل المضامين. هم الذين يهيئون الملفات، ينصحون بترتيب الأولويات، ويقترحون المواد أو الوثائق المراد عرضها. هم الذين نصحوه وأشاروا عليه بالألوان لتزكية طرحه، فأفرد للبعض اللون الأخضر، وأفرد للبعض الآخر اللون الأسود (حال إيران)، فيما لا أثر يذكر للون الأبيض إلا في المقطع المتعلق بالصحراء المغربية. لا يمكن للعين والحالة هاته، أن تزيغ عن طبيعة الألوان إيّاها، ولا عن الرسائل المشفرة المضمنة بها.
ما الحكمة من كل ذلك؟ كنت أزعم، في فترة ما قبل "طوفان الأقصى"، أنّ إسرائيل إنّما تبتز المغرب لاستدراج الجزائر، المناهضة للوحدة الترابية للمغرب. إذ على الرغم من الاعتراف الرسمي بمغربية الصحراء، فإسرائيل تتموقع عمليًا ضمن المنطقة الرمادية لمغازلة الجزائر، في أفق استدراجها لصفها. وهو زعمٌ جديٌ، إذ لا تسعى إسرائيل إلى إغضاب الجزائر، لأنّها تراهن عليها للحصول على عضوية ما بالاتحاد الأفريقي.
المغرب جعل من القضية الفلسطينية قضيته الوطنية الثانية بعد الوحدة الترابية
ثم إنّ ابتزاز المغرب في هذه الظروف، إنّما القصد منه تطويع موقفه الذي بدا عصيًّا، متعاطفًا مع الفلسطينيين ومتساوقًا مع مبادئ القانون الدولي، لا سيما الإنساني منه.
إسرائيل تضغط بهذه الزاوية، لدفع المغرب إلى الاصطفاف خلفها، أو إلى تليين موقفه بخصوص تنديده بسلوك إسرائيل ومطالبته إياها بوقف الحرب. إنّها تجهل في الحالات مجتمعة، أنّ المغرب لا يخضع للابتزاز ولا لليّ الذراع، هو الذي جعل من القضية الفلسطينية ومنذ زمن بعيد، قضيته الوطنية الثانية بعد الوحدة الترابية.
(خاص "عروبة 22")