تستغل اسرائيل الأحداث الأمنية في محافظة السويداء وتتلطى خلف الدروز تحقيقًا لغاياتها، وما الضربات العنيفة على رئاسة أركان الجيش ومحيط القصر الرئاسي في دمشق الا رسالة سياسية للرئيس السوري أحمد الشرع، الذي يدرك جيدًا ان هذا التصعيد العسكري يهدف لدفعه نحو تقديم "المزيد من التنازلات" لعقد تسوية سياسية وفقًا للشروط التي تريدها اسرائيل بموافقة أميركية. وهذه الاعتداءات وضعها الشرع في إطار "خلق الفتن في سوريا"، مشددًا على رفض مخططات التقسيم والتفتيت بكل أشكالها "فبلدنا ليس ساحة تجارب للمؤامرات الخارجية، ولا مكان لتنفيذ أطماع الآخرين على حساب أطفالنا ونسائنا".
فمنذ سقوط النظام السابق في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، واسرائيل تصعّد اعتداءاتها لجعل سوريا دولة هشة مفككة، وذلك إما عبر استهداف المقار الامنية وتدمير القدرات الدفاعية للجيش السوري أو عبر استغلال نغمة الدفاع عن "الاقليات" بهدف تعزيز سيطرتها وتدخلاتها. وجاءت أحداث السويداء بين مسلحين دروز وعشائر بدوية لـ"تصب الزيت على النار"وسط تعالي اصوات داخلية وخارجية لضرورة ضبط الاوضاع والحدّ من توسع رقعتها منعًا لتفلت الامور من عقالها. ومع هذه التطورات المتسارعة، تقف دمشق اليوم عند مفترق شديد الخطورة مما يضعها أمام خيارين لا ثالثة لهما: القبول بما هو معروض على طاولة التفاوض بهدف السير نحو اتفاقيات التطبيع أو تعرض البلاد للمزيد من الانتهاكات الاسرائيلية دون القدرة على الخروج من دوامة العنف.
والمقصود هنا أن هذه الضربات أتت بعد أيام معدودة من زيارة الشرع الى العاصمة الأذربيجانية، باكو، والتي شهدت على لقاءات عقدت بين مسؤولين سوريين واسرائيليين ولكنها، على ما تشير التطورات، لم تصل الي نتائج مرضية، والسبب هو أن رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو يعتبر أن استمرار بقاء قواته في الجولان وجبل الشيخ "تحصيل حاصل" فيما المطلوب لابرام أي تسوية اليوم الحصول على مكاسب و"جوائز ترضية" أكبر وهو ما لم يقدمه الرئيس السوري الذي كانت معطيات اسرائيلية تحدثت عن رفضه التنازل عن الجولان والتمسك باستعادتها مقابل أي صفقة مستقبلية.
وفي التفاصيل الاخيرة، أعلنت وزارة الدفاع السورية عن بدء انسحاب عناصر الجيش من السويداء تطبيقًا للاتفاق المبرم بين الدولة ومشايخ العقل بالمدينة، في اطار محاولة "جديدة" لارساء الامن والاستقرار بعد انهيار الاتفاق السابق ساعات فقط من الإعلان عنه. وخروج القوات الرسمية ينذر بإمكانية تجدد الاشتباكات بين فنية وأخرى لان المعالجات الجذرية لا ترال غير متاحة خصوصًا أن هناك انقسام علني في الشارع الدرزي بعد رفض الشيخ حكمت الهجري الاتفاق قائلًا "إن القتال سيتواصل لحين تحرير كامل السويداء". ولكن رغم ذلك تكثفت في الساعات الاخيرة المحاولات لوقف حمام الدم الجاري منذ يوم الأحد الماضي بعدما خلّفت هذه الاحداث عشرات القتلى والجرحى وأعادت الى الاذهان فظائع المرحلة الماضية بكل تفاصيلها الاجرامية وسط تأكيدات حكومية بمحاسبة الجناة وسوقهم الى العدالة.
الى ذلك، أعلنت وزارة الصحة السورية العثور على عشرات الجثث بالمستشفى الوطني في السويداء، بينها جثث تابعة لأفراد من قوات الأمن وآخرين مدنيين. ووثقت "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" مقتل ما لا يقل عن 169 مواطنًا في محافظة السويداء، بينهم 5 أطفال و6 سيدات، وإصابة ما لا يقل عن 200 آخرين بجروح متفاوتة الخطورة، منذ 13 تموز/يوليو الجاري. وهذه الحصيلة المخيفة دفعت دروز لبنان الى عقد اجتماع موسع سعيًا وراء التوصل إلى حل سياسي خصوصًا ان هناك من يرفض زج الدروز في أتون المؤمرات السياسية والرهان عليهم من أجل زعزعة استقرار البلاد. وكان موقف الزعيم الدرزي وليد جنبلاط واضحًا في هذا الاطار، وهو الذي زار الشرع مرتين في دمشق سابقًا، للتأكيد على أن الدروز هم أساس النسيج السوري. ويسعى الاخير بما يملك من خبرة سياسية وحنكة الى تجنيبهم دفع "فاتورة الدم" ارضاءً لاسرائيل وحكومتها اليمينية المتطرفة.
وقد ألقت الاحداث السورية بثقلها ودفعت العديد من الدول، لاسيما الخليجية والعربية منها، الى شجب وادانة ما يجري لان ذلك من شأنه تأجيج النيران في منطقة الشرق الأوسط التي تعيش على وقع المخططات الاسرائيلية التي لا تحمل أي "بشائر ايجابية". تزامنًا، أفاد دبلوماسيون لوكالة "رويترز" بأن مجلس الأمن الدولي سيجتمع اليوم، الخميس، لبحث الغارات الإسرائيلية على سوريا. وبانتظار ما ستؤول اليه الجهود والمساعي الدولية يبقى الحذر سيد الموقف ما يُعقد من خطط الحكومة الساعية بعد رفع العقوبات الدولية الى الانطلاق بمرحلة اعادة الاعمار التي يبدو أنها لن تكون باليسر المتوقع اذا ما استمر التدهور الامني وتوسعت رقعته.
هذا ولا تقف طموحات اسرائيل عند حدود سوريا بل تتعداها الى غزة التي تعيش على وقع انتظار هدنة لم تتبلور معطياتها بعد رغم استمرار المحادثات غير المباشرة بين وفدي اسرائيل و"حماس" في العاصمة القطرية، الدوحة. وتقف العديد من العقبات في وجه التوصل الى اتفاق ولكن أبرزها عقدة الانسحاب الاسرائيلي حيث يضغط الوسطاء نحو تعديل الخرائط المقدمة من جانب تل أبيب سعيًا وراء تقليص الفجوات والاعلان عن اتفاق لوقف النار لمدة 60 يومًا. وبحسب الاعلام الاسرائيلي، تتصدر منطقة رفح المفاوضات بعد حلحلة في عقدة "محور موراج"، الذي يفصل مدينتي رفح وخان يونس جنوب غزة، نتيجة الضغوط الاميركية.
ويتعاظم الحديث عن منطقة رفح بعد تأكيد اسرائيلي على وجود خطط لانشاء "المدينة الانسانية" على انقاضها بهدف حشر اكبر عدد من الفلسطينيين داخلها وحرمانهم من أبسط حقوقهم ما اثار ردود فعل رافضة لهذا المخطط الاجرامي. وفي السياق، كشف وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي أنه يدرس فرض عقوبات على وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس بسبب مقترحه نقل الفلسطينيين من غزة إلى هذا المعسكر، ما يؤكد اتساع الهوة بين حكومة نتنياهو وحكومات الدول الأوروبية التي تنظر بعين القلق الى ما يجري في القطاع المحاصر من انتهاكات ترقى إلى مستوى جرائم حرب وابادة جماعية. وكان قضاة بالمحكمة الجنائية الدولية رفضوا طلب إسرائيل إلغاء مذكرتي الاعتقال الصادرتين بحق نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت.
في المقابل، يواجه نتنياهو، الى جانب العزلة الدولية، ضغوطًا داخلية تجلت بانسحاب حزب "شاس" المنتمي لليمين المتطرف من ائتلافه الحكومي، ليشكل "ضربة ثانية" بعد اقدام حزب "يهدوت هتوراه" على الخطوة نفسها قبل أيام بسبب رفض قانون تجنيد الحريديم في صفوف الجيش. وبهذا هبط عدد النواب في الائتلاف الحكومي من 61 نائبًا إلى 50 نائبًا فقط من إجمالي 120 في البرلمان الإسرائيلي (الكنيست)، ما يعني أن حكومة نتنياهو باتت حكومة أقلية ولكن دون أن يكبل نهائيًا قدرتها على اتخاذ القرارات المهمة.
وضمن الاطار، أفاد إعلام إسرائيلي بتعليق الملاحة الجوية في مطار بن غوريون الدولي إثر إطلاق صاروخ من قبل الحوثيين في اليمن. ويأتي ذلك بالتوازي مع تقارير إسرائيلية بتوقف ميناء ايلات عن العمل بداية من الأحد المقبل، لعجزه عن سداد ديونه إثر انخفاض حاد في إيراداته جراء حصار بحري تفرضه جماعة "الحوثي" المدعومة من ايران. يُشار الى أن القيادة المركزية الأميركية "سنتكموم" أعلنت عن مصادرة القوات اليمنية لشحنة ضخمة من الأسلحة الإيرانية كانت متجهة لميليشيا الحوثي في اليمن.
وهنا جولة على أبرز ما ورد في الصحف العربية الصادرة اليوم في بيروت:
تحت عنوان "أبعد من سوريا ولبنان"، كتبت صحيفة "الوطن" القطرية الاعتداءات الاسرائيلية "ليست جديدة، لكنها أخذت أبعادا خطيرة للغاية، وهي تنذر بتفجير الأوضاع في هذا البلد العربي، على أمل تفتيته وتقسيمه، وهو هدف إسرائيلي مُعلن، فيما من المؤسف أنه يجد صدى له لدى بعض مكونات المجتمع السوري، وإن كانوا قلة"، داعية الى "تحرك عربي حقيقي يضع حدًا لهذه التدخلات التي ترمي إلى فرض واقع جديد، يتجاوز حدود سوريا ولبنان الجنوبية، إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير".
من جانبها، رسمت صحيفة "البلاد" البحرينية صورة قاتمة لما يجري قائلة "العالم يتجه إلى خريطة جديدة، لا تُرسم بالحبر وحده، بل بالدخان والركام. والسنوات الخمس المقبلة ستشهد حروبًا قد لا تُعلن، لكنها ستُخاض على الأرض والاقتصاد والهوية. ستبتلع الفوضى خرائط، وستتمزق تحالفات، فقط كي يعرف العالم من سيكون سيد المرحلة المقبل". وأضافت "أميركا الإمبراطورية التي انفردت بالعالم منذ انهيار جدار برلين، بدأ تاجها القطب الأوحد يهتز من فوق رأسها، والصين تنمو بخطى ثابتة في صمت، وروسيا تنفث الرماد من تحت جليدها السوفيتي القديم، والعالم العربي وإن بدا مشغولا بجراحه، إلا أنه ما عاد خارج اللعبة".
واعتبرت صحيفة "الأهرام" المصرية أن "تكتيكات الحروب المتنقلة التى يستخدمها العدو الصهيوني في حرب الإبادة في غزة والعدوان على لبنان وإيران، بمثابة جرس إنذار لدول المنطقة يجب دراستها جيدا، خاصة ما يتعلق منها بحجم الاختراقات الاستخباراتية واستخدام الذكاء الاصطناعي والطائرات المسيّرة". وشددت على أنه "واهم من يتصور أن أطماع نتنياهو ستقف عند حدود غزة والضفة، ولكنه سيواصل عدوانه على دول المنطقة لتحقيق حلم إسرائيل الكبرى، وهذا يتطلب من دول المنطقة الاستعداد لحرب قادمة"، وفق تعبيرها.
ودعت صحيفة "عكاظ" السعودية الى "اعادة النظر بالعلاقات اليمنية الخليجية، فبجانب وحدة الجغرافيا واللغة والعروبة، وهي نقاط رئيسية ومبدئية بلا شك في العلاقات، إلا أن الجانب الأهم هو وجود مصالح مشتركة". وخلصت الى أن "وحدة المصير تفرض على اليمن وعلى دول الخليج وشعوب المنطقة تمتين علاقاتهم، والأهم أن التطورات في المنطقة والعالم تجعل من التحول إلى الشراكة الإستراتيجية بين اليمن والخليج أمراً ملحاً وعاجلاً للطرفين، فالمصير الذي سنواجهه جميعاً واحد، والمخاطر والمنافع أيضاً واحدة، وهو ما يتطلب التحرك من كافة الأطراف للوصول إلى الشراكة الإستراتيجية"، بحسب رأيها.
أما صحيفة "الصباح" العراقية، فرأت "أن ترامب وجد في نتنياهو ضالته لتحقيق حلمه مع وجود آخرين شركاء يتقدمون عليه لكن لم يحن دورهم الان، فهما وان لم يتوافقا في الكيمياء لكنها يلتقيان في المصالح"، لافتة الى أن "الولايات المتحدة تعرف بيد من تسلم مفتاح مستقبلها، ويبدو من اختيارها لترامب (رغم سجله القضائي) انها تبحث عن رئيس يحقق حلمها بان تكون القوية والاولى ووجدت في ترامب ضالتها التي تحقق هذا الحلم والانسب لهذا المنصب ولا مانع من ان تغير نفسها لتكون "على مقاسه)" وتنقلب على دستورها وقيمها التي عُرفت بها.
(رصد "عروبة 22")