بالرغم من الأهمية الكبيرة لتوافر موارد المياه للاستهلاك المنزلي ولقطاع الصناعة، إلا أنّ توافرها يُعد أمرًا حاسمًا لقطاع الزراعة، لاستصلاح الأراضي الصالحة للزراعة في البلدان العربية، وتحويل الزراعات المطرية ضعيفة الإنتاجية في العادة، إلى زراعات مروية عالية الإنتاجية لزيادة الإنتاج الزراعي والغذائي وتقليص الفجوة الغذائية العربية التي تتزايد بشكل مطرد حتى بلغت قيمتها عام 2022 نحو 43,8 مليار دولار، مقارنةً بنحو 34,8 مليار دولار عام 2015، ونحو 29 مليار دولار عام 2010.
فارق هائل بين إنتاجية الزراعة المطرية والزراعة المروية
تُعتبر الفجوة الغذائية العربية ناتجًا مباشرًا للاعتماد على الزراعة المطرية المنخفضة والمتقلبة الإنتاجية في مناخ متغيّر في غالبية البلدان العربية. ومن بين 79 مليون هكتار من الأراضي المزروعة بالزراعات المستديمة والموسمية في مجموع الوطن العربي، هناك نحو 16,5 مليون هكتار مزروعة بالريّ بنسبة 20,9% من المساحة الزراعية الكلية. ولإدراك تأثير ذلك على الإنتاج الزراعي يكفي أن نعلم أنّ الناتج الزراعي المصري بلغت قيمته نحو 48,1 مليار دولار شكّلت نحو 28,2% من مجموع الناتج الزراعي العربي، رغم أنّ مساحة الأراضي المزروعة في مصر البالغة وفقًا لمنظمة الأغذية والزراعة العالمية نحو 3,97 مليون هكتار، لا تشكّل سوى 5% من الأراضي الزراعية العربية. والسبب ببساطة أنّ 98,7% من مساحة الأراضي الزراعية في مصر تُزرع بالريّ وليس على المطر، وهو ما يجعل مصر تشغل أحد المراكز المتقدّمة عالميًا في إنتاجية غالبية المحاصيل الرئيسية.
البلدان العربية تحتاج لبناء استراتيجيات محكمة لضمان تدفق المياه إليها من بلدان الجوار
على سبيل المثال، فإنّ إنتاجية هكتار الحبوب في مصر تبلغ نحو 7 أطنان، بينما تبلغ في المتوسط العربي عمومًا نحو 1,7 طن فقط. وتصل إنتاجية الأرز في مصر إلى 13,7 طن للهكتار، بينما تبلغ لدى أهم منتجين له بعدها في الوطن العربي نحو 5,3 طن في موريتانيا، ونحو 3,4 طن في العراق. والخلاصة هنا أنّ توفّر المياه والزراعة بالريّ عاملان حاسمان في زيادة إنتاجية الأرض والإنتاج الزراعي والغذائي العربي، فما هي الحالة المائية للبلدان العربية؟.
أمّة قلبها المائي خارج حدودها!
لم تتجاوز موارد المياه الداخلية المتجددة في البلدان العربية عند أقصى تقدير لها، نحو 152,6 مليار متر مكعب، أي نحو 0,38% فقط من مجمل الموارد المائية العذبة في العالم، وهو ما يشير إلى الفقر المائي الشديد للوطن العربي، خاصة إذا قارنا هذه الموارد المائية الداخلية المتجددة بحصة العرب من سكان العالم (5,6%)، وحصتهم من مساحة اليابسة (9,6%). لكن المنطقة العربية تحصل على الجزء الأعظم من احتياجاتها المائية العذبة، من دول الجوار، حيث يتدفق إلى بلدان الوطن العربي نحو 180 مليار متر مكعب من المياه من بلدان الجوار الجغرافي للعرب عبر أنهار النيل والفرات ودجلة والسنغال وروافدهم المختلفة، وهو ما يشكّل عنصر ضعف مائي خطير في البلدان العربية التي تحتاج لبناء استراتيجيات محكمة لضمان تدفق المياه إليها من بلدان الجوار بالشكل الملائم لاحتياجاتها وحياة سكانها التي ترتبت على هذا التدفق التاريخي للمياه من تلك البلدان إلى الوطن العربي.
لمن تنتسب المياه المشتركة بين العرب وجيرانهم؟
يُعتبر انتساب مياه أي نهر دولي يجري بين دولتين أو أكثر أمرًا في غاية الأهمية بل وحاسمًا في تحديد الحقوق المائية لدول حوض النهر. وخلال مفاوضات الأمم المتحدة لصياغة الاتفاقية الإطارية للاستخدامات غير الملاحية للأنهار الدولية، أصرّت تركيا وإثيوبيا على تسميته بالمياه العابرة للحدود، بينما أصرّت مصر وسورية والعراق على تسميته بالنهر الدولي وإخضاعه بالتالي للقواعد القانونية الدولية الخاصة بالأنهار الدولية. وقد فرّطت مصر في حقوقها عندما وقّعت على اتفاقية الخرطوم في مارس عام 2015 مع السودان وإثيوبيا، حيث نصّت الاتفاقية على أنها بشأن المياه العابرة للحدود. وتنضوي كل الآراء المتعلقة بانتساب مياه النهر الدولي تحت فكرتين رئيسيتين: الأولى هي انتساب المياه للأرض التي نبعت منها وخضوعها لسيادة الدولة على إقليمها بصورة مطلقة بما فيه ما يتدفق منه من مياه. والفكرة الثانية هي انتساب المياه لمن استخدمها واعتمدت حياته عليها تاريخيًا وبصورة سابقة على حاجة الآخرين لها في حوض النهر.
وبين الفكرتين نشأت أفكار حول الاستفادة المتوازنة من مياه الأنهار الدولية بحيث يتم الحفاظ على انتساب المياه للأمم التي ترتبت حياتها عليها سواء في المنبع أو المصب، مع السماح للجميع باستخدام النهر الدولي في الملاحة والسياحة دون تلويث مدمّر لنوعية مياهه، وفي توليد الكهرباء دون إضرار بدول المصب التي ترتبت حياتها الإنسانية والنباتية والحيوانية على تدفق تلك المياه إلى أراضيها. وبقدر الاستخدام التاريخي واعتماد الإنسان والحيوان والنبات في البلدان العربية المستقبلة للمياه التي تنبع في دول أخرى، يتحدد انتساب المياه لتلك الدول العربية وهي تحديدًا مصر والسودان والعراق وسورية وموريتانيا، بينما تنبع مياه نهر الأردن من الدول العربية وينهبها الكيان الصهيوني.
القانون الدولي خليط ملتبس يشعل الصراعات أكثر من معالجتها
ارتبط تشكّل القانون الدولي الخاص بالأنهار الدولية بمشاكل أو نزاعات واقعية. وكانت البداية مع ما تسمى بنظرية "السيادة المطلقة" الفاسدة كليًا والتي تقوم على أساس حق كل دولة فى ممارسة السيادة المطلقة على أراضيها بما في ذلك أي نهر ينبع منها، بما يعطيها الحق المطلق في السيطرة الكاملة على مياهه دون باقي دول مجرى ومصب النهر. أما نظرية الحقوق النهرية المتكاملة فهي معاكسة تمامًا، وتقضى بأنّ كل دولة من دول حوض النهر الدولي من حقها أن تستقبل كمية المياه نفسها التي تتدفق بشكل حر من المنابع دون المساس بهذه المياه أو تلويثها. أما نظرية التقسيم العادل لمياه النهر، فتقوم على أساس التوفيق بين المصالح المائية لدول حوض النهر بشكل يتسم بالعدالة ويأخذ في الاعتبار احتياجات كل دولة ويراعي الحصة التاريخية لكل دولة من دول حوض النهر كعامل محدد لماهية التقسيم العادل للإيراد المائي للنهر على دول الحوض.
الدول العربية تحتاج إلى إدارة شراكتها المائية مع دول المنابع الأجنبية بدرجة من القوة والحكمة والإبداع
أما القانون الدولي الخاص بتقسيم مياه الأنهار الدولية المشتركة فهو خليط ملتبس ومطاط ومتضارب وحمّال أوجه، ويشعل الصراعات أكثر مما يعالجها، وعلى رأسه الاتفاقية الإطارية للاستخدامات غير الملاحية للأنهار الدولية والتي دخلت حيّز التنفيذ عام 2014 بعد تصديق 35 دولة عليها، وهي تحتاج لمقال آخر لتحليلها.
لكن في كل الأحوال فإنّ الدول العربية تحتاج إلى إدارة شراكتها المائية مع دول المنابع الأجنبية بدرجة من القوة والحكمة في حماية الحقوق، والإبداع في خلق الحلول وفي التخطيط لتطوير الموارد المائية المشتركة حتى تكفي الجميع، مع اقتسامها مع دول حوض النهر بشكل عادل. كما تحتاج إلى ترشيد استهلاك المياه في كافة الاستخدامات، وبالذات في قطاع الزراعة الذي يستخدم وسائل ريّ تقليدية تهدر الكثير من المياه. كما أنّ التركيز على المحاصيل الاستراتيجية وبخاصة الأقل استهلاكًا للمياه، يُعد أمرًا ملائمًا لمنطقة هي الأفقر في موارد المياه في العالم.
(خاص "عروبة 22")