كل ذلك يجعل المدينة/الدولة المنظّمة ومختلف الأمكنة والفضاءات التي يتم إلحاقها بالمونديال مركزًا عالميًا، إنها عالم بمعنى أول يفيد المكان: مجال متجسّد في رموز بمعالمه، وآثاره، وقوته الحضورية (مارك أوجيه)، تصبح معه المدينة التي تحتضن أهم المباريات ذات طابع عالمي، خاصة فيما بعد إقصائيات الدور الأول، بفعل زيادة جمهور المشجعين، والإقبال المتزايد على المطارات والملاعب والمدرجات.
إنها مدينة كل واحد، مدينة الحداثة، ومدينة الساعة، مدينة التمتع وفن الحضور واستهلاك الثقافة والرموز والمعاني إلى جانب استهلاك السلع والمنتجات الصناعية، وهذه المدينة لا تكون عادةً مجرد بؤرة جغرافية وبشرية، بل نقطة مركزية وعقدة من العلاقات والروابط والاستقبالات، في شبكة واسعة من التقاطعات وخطوط سير وهجرة، توضع فيها المدينة المنظّمة على خارطة المدن العالمية، باعتبارها مركزًا مؤثّرًا في الإعلام والسياسة والثقافة والسياحة العالمية، والمدينة تتأهل لهذه الصفة بسبب قدرتها على الفهم، ثم التعامل الذكي مع معطيات العولمة، خاصة مفاهيم التدفق المعلوماتي والمعرفي والبشري والاقتصادي والمالي. (علي عبد الرؤوف).
"أسلوب جمعاني عربي" جديد انبثق من رحم فعاليات المونديال ردّ الاعتبار إلى معنى أن نكون مجتمعًا عربيًا موحّدًا
والواقع أنّ إعلان الفيفا اختيار قطر لتنظيم كأس العالم لسنة 2022، والمغرب إلى جانب إسبانيا والبرتغال لتنظيم فعاليات المونديال القادمة (سنة 2030)، قد خالف توقعات الجميع، مهتمين وباحثين ومشجعين ونخب إعلامية واقتصادية وسياسية، حيث سبق تصنيف دولة قطر نسبةً إلى عدد المتقدمين بطلب التنظيم في الرتبة الخامسة، واعتبرت مخاطر فشل التنظيم لدى قطر مرتفعة مقارنةً بدول أخرى، يرجع السبب في ذلك إلى أنّ العرب في التمثّلات الجمعية لهذه الفعالية (المونديال) لا يتوفرون على مقومات المدينة/العالم، خاصة ما ارتبط منها بالفضاءات، والبنيات التحتية، وأشكال العمل، والتنشيط، والترفيه، والثقافة الكروية التي يمكن أن تحتضن تظاهرة عالمية وتسهم في نجاحها، بل لا يتوفرون قبل ذلك على مدينتهم العربية أيضًا، تلك التي يحج إليها جميع العرب خارج الواجب الديني (مكة)، كما يحج الأوروبيون عادةً خلال عطلهم القصيرة أو الصيفية، إلى مدنهم الأوروبية العالمية مثل باريس ومدريد ولندن وبرلين والبندقية وغيرها.
ولعل هذا الاهتمام المبكر بأمكنة وفضاءات جديدة للمونديال، خارج المتعارف عليها تقليديًا، بل وداخل بلاد عربية وإسلامية، هو ما قاد حربًا ضد الدولة المنظّمة: قطر، ظهرت في الخطاب الإعلامي الغربي منددة ومشوهة بذلك الآخر غير المعين وأسلوبه في العيش، ومرجع ذلك إلى "ما في الغرب من عجز متأصل عن تصوّر حياة مختلفة، مغايرة للنمط الغربي" (مارك أوجيه).
التحدي الأكبر هو استثمار المنجز والمتحقق في الحفاظ على مكتسبات فنّ الحضور العالمي
عليه، فأحداث وفعاليات مونديال قطر كما عملت الجماهير العربية والعالمية، على بناء معماريتها وتشكيل ملامحها البصرية والهوياتية، إلى جانب الإنجازات التي حققها المنتخب المغربي ووصوله إلى المربع الذهبي، وباستنادها على تقنيات الانترنت والشبكات متعددة الجذور والمنافذ - شارك فيها ملوك وأمراء ورؤساء وصحفيون ورجال أعمال ومؤثرون ومشاهير.. - أنجزت إحدى المهام الأكثر صعوبة، والتي تتمثّل في تشكيل بُعد جديد لمونديال كرة القدم، إنه "البُعد العربي الإسلامي"، وهو في أساسه بعد الوجه لوجه مع الآخر الغربي، أو المواجهة الغيرية على نحو عربي، اتخذت شكل تشابك وتبادل وتفاعل، جسّده بوضوح الحضور الجمعاني للجماهير العربية، في الفضاءات والأماكن الموقعية العربية كما الغربية، بما هو - أي هذا الأسلوب في الحضور - نوع من الهوية الإجتماعية العربية الجديدة القائمة على الإمكان العربي في التنظيم والحضور والتباري والتألق أيضًا وعلى نحو عالمي، حيث يؤكد وليام باومان على البُعدين الحسّي والجمالي لكرة القدم، ودور ذلك البُعد في تشكيل الأهمية الثقافية والرمزية للعبة، وتشكيل ذاكرة جمعية حولها، وخلق معجم خاص بها سمح بالحديث عن غيرية عربية وإسلامية قادرة وذات إمكان تنافسي عالمي، غيرية عربية قادرة على مواجهة الآخر الغربي والتنافس معه بل والتغلّب عليه أيضًا، إنه "أسلوب جمعاني عربي" جديد انبثق من رحم فعاليات وأحداث المونديال الموقعية والشبكية، وجد مرجعيته المثلى في سلطة المشاهد والصور والمعاني واستثمارها لتقاسم "أخلاق الجماليات"، وردّ الاعتبار إلى معنى أن نكون مجتمعًا عربيًا موحّدًا نفرح بانتصار أحدنا ونتألق بتألقه، بما ساعد على إعادة تشكيل مظهرية جديدة للمونديال، باعتباره مونديال الجميع، ومونديال الآخر أيضًا.
يبقى التحدي الأكبر أمام تجربة مونديال قطر، ولاحقًا مونديال المغرب، هو استثمار المنجز والمتحقق من التراكم الثقافي والرمزي حول الأمكنة وفضاءات المونديال والبنيات التحتية، في الحفاظ على مكتسبات فنّ الحضور العالمي، في إطار استمرارية ثقافية وحضارية عربية بقدر ما هي عالمية، عبر سيرورة لقاءات وفعاليات وتبادلات عربية بأبعاد عالمية مستدامة، تستجيب لمتطلبات البنية النفسية اللاشعورية للعرب (مغايرة للغرب)، وتراعي نظرتهم إلى أنفسهم وإلى العالم والغير، وتعبّر عما يتوقون إليه ويحيون على أمل بلوغه.
(خاص "عروبة 22")