صحافة

التنمية المستعصية في الشرق الأوسط

جمال عبدالجواد

المشاركة
التنمية المستعصية في الشرق الأوسط

هناك أقاليم في العالم تساعد على التنمية وتسهلها. أوروبا وشرق آسيا أقاليم تتيح فرصا للتنمية لمن يريد من الجيران. في الشرق الأوسط، على العكس، بيئة غير صديقة للتنمية. هل يوجد نموذج تنموي واحد ناجح في منطقتنا؟ الشرق الأوسط منطقة صراعات دائمة، وفيه، رغم ثرواته، أوضاع اقتصادية غير مواتية للتنمية؛ ومن لا يبذل جهدا مضاعفا في منطقتنا فإن أوضاع الإقليم تجعل الأمر أكثر صعوبة عليه.

في الاتحاد الأوروبى 27 دولة عضوا، بعد أن أسسته ست دول فقط، هي الدول التي وضعت اللبنات الأولى للبناء الذي تطور بعد ذلك إلى الاتحاد الأوروبي الذي نعرفه الآن. تسابقت الدول للفوز بعضوية الاتحاد الأوروبي لما في عضويته من مزايا تيسر تحقيق التنمية. الاتحاد الأوروبي لا يوزع المنح والمساعدات على الأعضاء الجدد بغير حساب، فالأهم من ذلك هو أنه يتيح أسواقه الواسعة لكل الشركاء بلا تمييز، ويساعد الحكومات على تنفيذ إصلاحات لا تتحقق التنمية بدونها. الاتحاد الأوروبي هو أفضل تطبيق للحكمة القائلة بأنك لو أردت أن تساعد محتاجا، فلا تمنحه سمكة، ولكن علمه كيف يصطاد السمك.

لا يوجد في شرق آسيا شيء يشبه الاتحاد الأوروبي، لكن يوجد هناك قاطرات تنموية ضخمة نجحت في جر دول المنطقة، واحدة بعد الأخرى، على طريق التنمية. قدمت اليابان أول نموذج آسيوي ناجح للتنمية الصناعية الحديثة. تحولت اليابان منذ انتصارها على الإمبراطورية الروسية عام 1904 إلى نموذج ملهم للشعوب الآسيوية المجاورة. حتى عندما كرهت شعوب شرق آسيا الإمبريالية اليابانية ووحشيتها، فإنهم واصلوا الإعجاب بالنموذج الياباني في تجاوز المجتمع التقليدي والفقر والتخلف واللحاق بالغرب. ألهمت اليابان النماذج التنموية المبهرة في تايوان وكوريا وسنغافورة. انتشرت الغيرة والخبرات التنموية في بلاد المنطقة، فشملت الصين، وإندونيسيا وماليزيا وفيتنام، وسوف تجد في كل بلد من هذه البلاد شيئا ما من النموذج الياباني.

التنمية في شرق آسيا أكثر من مجرد محاكاة للخبرات الناجحة، ولكنها أيضا انتشار للتصنيع والاستثمار الصناعي من البلاد الأسبق في التنمية إلى البلاد التي جاءت لاحقا. عندما ارتفع مستوى معيشة اليابانيين، وتحولت اليابان من صناعة المنسوجات ولعب الأطفال إلى صناعة السيارات والإلكترونات، انتقلت الصناعات المهجورة للبلاد المجاورة للاستفادة من أجور العمال الرخيصة، فيسرت التصنيع والتنمية فيها، الأمر الذي تكرر بعد ذلك مع الملتحقين الجدد بمسيرة التنمية الآسيوية.

ليس لدينا شيء من هذا في الشرق الأوسط، فليس في منطقتنا نماذج تنموية تثير الإعجاب، أو قاطرات للتصنيع، وإن كان لدينا نماذج مبهرة للاستهلاك الترفي. أفضل ما يتيحه الشرق الأوسط هو عائدات تصدير النفط، وهي نعمة ونقمة، وعلى من يريد، من غير أهلها المباشرين، الاستفادة منها أن يبذل جهدا خاصا مضاعفا.

تصل عائدات النفط إلينا في شكل تحويلات العاملين في الخارج واستثمارات أجنبية توفر سيولة نحتاجها. تتوجه هذه الأموال في أغلبها لتمويل استهلاك ترفي غير متناسب مع ما ينتجه الاقتصاد المصري داخليا من مستويات للثروة والرفاهية، ولولا تحويلات العاملين في الخارج ما رأينا الكثير من مظاهر الأبهة والفخامة التي نراها حولنا في مصر.

تحويلات العاملين في الخارج تنشط الطلب على السلع الاستهلاكية، لكنها في جانب كبير منها سلع فاخرة تلائم الدخول المرتفعة ونمط الحياة الاستهلاكية، لا يتم إنتاجها محليا. ربما كان من الممكن لصناعة السيارات المحلية المتواضعة أن تواصل تطورها التدريجي لو اقتصر دورها على سد الطلب القادم من طبقة وسطى محلية المنشأ. إلا أن ظهور مستويات الدخول المرتفعة وأنماط الاستهلاك الفاخر أجهز على هذه الفرصة، في مقابل زيادة الطلب على سيارات مستوردة فائقة الجودة. ما حدث لصناعة السيارات المحلية هو مجرد مثال تكرر مع صناعات كثيرة رأيناها تضمحل أمام أعيننا خلال الخمسين عاما الأخيرة، بسبب ضغوط السلع المستوردة الفاخرة، وقصور وفساد الإدارة البيروقراطية.

ذهب ملايين المصريين للعمل في الخليج، ورزقهم الله هناك بدخول مرتفعة. صحيح أن الفجوة بين مستويات الأجور في مصر والخليج واسعة جدا، إلا أن أجور العمالة في مصر شهدت في العقود الماضية قدرا من الارتفاع لملاحقة مستويات الأجور في المنطقة، بعد أن تكونت سوق عمل إقليمية تقودها مستويات الأجور المرتفعة في البلاد الأكثر ثراء. قد يكون هذا شيئا رائعا من وجهة نظر معينة، لكنه قد لا يكون كذلك من وجهة نظر التنمية الصناعية في بلد نامٍ مثل مصر. فارتفاع أجور العمالة في بلد ما زال في المراحل المبكرة للتنمية الصناعية هو خبر غير سار، لأن العمالة الرخيصة هي من أهم روافع الاستثمار الصناعي في البلاد النامية.

ما حدث في بلادنا خلال نصف القرن الأخير هو زيادة الاستهلاك واستيراد السلع الفاخرة، وارتفاع فاتورة الاستيراد؛ وتوجيه النظام الاقتصادي لخدمة الاحتياجات الاستهلاكية للميسورين القادمين من الخارج، فتم بناء كمبوندات سكنية وقرى سياحية واستيراد سيارات وسلع فارهة. لقد تم تحويل اقتصادنا إلى اقتصاد استهلاكي ترفي، وكانت كل محاولة للحد من ذلك تواجه بأصوات عالية، بعد أن أصبح الاستهلاك مصدر رزق وثروة لأعداد كبيرة من الناس.

الأموال والتحويلات تأتي من الخارج، وهذا أمر إيجابي في كل الأحوال، لكن علينا اتخاذ ما يلزم لتوجيه هذه الموارد لرفع مستويات الادخار والاستثمار والتصنيع، وهي مهمة ضرورية لكنها ليست سهلة في منطقة تحفز الاستهلاك والخدمات أكثر من التنمية والتصنيع.

("الأهرام") المصرية

يتم التصفح الآن