إسرائيل الصغرى والكبرى.. رؤى متضاربة

نشأت إسرائيل بمقتضى قرار دولي شهير يعرف بالقرار 181 لعام 1947 والقاضي بإعلان دولتين علي الأرض دولة يهودية ودولة عربية إلى جوارها. وقد تمكنت إسرائيل من الاستثمار في نص القرار، ونشأت بواقع القرار الدولي. ولم يعد متبقياً من القرار سوى الدولة العربية الأخرى المفترض تدشينها بصرف النظر عن الرفض أو التأييد الإسرائيلي أو تباين المواقف الدولية الحاكمة، والتي تغيرت منذ عقود، ولكن تبقي المراجعة والتذكير بوجود نص دولي بإنشاء الدولة الفلسطينية مسألة مستمرة، في إطار حل الدولتين المختلف عليه في الوقت الراهن برغم الاعترافات الدولية المتوالية بالدولة الفلسطينية. 

هذه مقدمة واجبة لما هو تال، حيث إن إسرائيل لا تزال تحتل أراضي عربية في لبنان وسوريا والأراضي الفلسطينية، وهو ما لا يتفق مع مشروعية القانون الدولي، ومن ثم فإن استمرار احتلال إسرائيل لهذه الأراضي ونفي الآخر ليس معناه منح إسرائيل كدولة مارقة الحق في التوسع والهيمنة علي أراضي دول جوارها بفعل الدعم الغربي عامة والأميركي علي وجه الخصوص ما يؤكد أن إسرائيل دولة احتلال، خاصة وأنها اتسعت لخارج حدودها لتقر استراتيجية الأمر الواقع، من خلال استخدام القوة المسلحة، وتكريس سياسة القوة الممنهجة، وهو ما يجري في الوقت الراهن تجاه دول جوارها، ومن خلال استثمار فرصة قد لا تتكرر من منظورها.

لعل هذا يفسر رؤية قياداتها وخاصة رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو الذي يريد بناء إسرائيل الكبرى، ومن دون أن يسمع لصوت العقل ولوقائع التاريخ السياسي والأمني للدولة العبرية في محيطها الإقليمي وعدم إدراكه برحيل مواطنين يفرون للخارج في إطار الهجرة المضادة، الأمر الذي يؤكد أن إسرائيل قد تواجه بكوارث حقيقية قبل أن تستكمل الـ100 عام في تاريخها مثلما فعلت الممالك اليهودية، التي يتغافل عن تفاصيلها نتنياهو ورفاقه من قادة المستوطنين، والذين لا يريدون سوى الاستمرار في الاستيطان والتوسع في النطاقات العربية المجاورة، وتأكيد قوة إسرائيل في بناء إسرائيل الكبرى المزعومة، ومن دون الإنصات للأصوات اليهودية التي تنطلق في دوائر العسكريين والأكاديميين بل والدينيين من طوائف يمينية ويسارية، والتي تحذر من مغبة التحرك في اتجاه إسرائيل الكبرى والتي لا تملك وفق مفهومهم الإيديولوجي إمكانات التفاعل والهيمنة المنفردة في محيط عربي وإقليمي، يرفض وجود إسرائيل في واقعها الرسمي.

الأمر لن يكون سهلاً لإسرائيل في تطبيق نموذجها التوسعي باعتبار أن توسعها مهما استمر لسنوات طويلة في دول جوارها، فإنه لن يستمر، وهو ما تتفهمه بعض القوى اليهودية، التي ترى أن الاحتلال مؤقت، وعزلة إسرائيل ممتدة ومستمرة. ولن تتوقف ولن يكتب لها الوجود في ظل ما يجري من تطورات الأمر الذي يتطلب بالفعل استراتيجية إسرائيلية مغايرة للحفاظ علي تواجدها بعيداً عن خرافة الأيديولوجيات والتركيز على أمن إسرائيل وحدها في محيط لا زال عدائياً لإسرائيل، وسيظل ما دامت مستمرة في سياستها العدوانية خاصة وأن مقاومة ما يتم قد يكون عبر وسائل مختلفة، وأدوات لا يمكن تصورها في إطار سيناريوهات غير واردة تتجاوز ما قد تعمل إسرائيل على الوصول إليه..

أن إسرائيل الكبرى خرافة لا وجود لها رددها مفكرو اليهود وبنوا تصوراتهم لتحقيقها في الشرق الأوسط، وتدفع بها مجموعة الحاخامات الكبار ما يؤكد على تمازج الدين بالسياسة والأيديولوجيا بالفكر اليهودي، لكن الإشكالية الرئيسة أن الداخل الإسرائيلي غير قادر على استيعاب ما قد يطرح في الوقت الراهن، وما زال عاجزاً عن تقدير واستشراف المشهد خاصة، وأن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو ومن معه ليس قادراً على قراءة سيكولوجية المواطن اليهودي، الذي ما زال غير مدرك لما يجري حوله لداخل مرتبك سياسياً واجتماعياً، ومع ذلك يسعى لفرض خياره من دون أن يعي المقابل الذي سيدفعه مقابل الوصول لهدف ليس له أصل أو جذر في مجتمع لا يملك سوى خيار القوة النوعية، ومسلحاً بالعديد من الخرافات والأيديولوجيات وهذا ليس بكاف للهيمنة والسيطرة على الشرق الأوسط بأكمله، وهذه هي الرسالة البليغة والتي لا يفهمها رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بين إسرائيل الحالية وبين إسرائيل الكبرى التي يحلم بها ولن يصل إليها لا في المدى القصير أو الطويل الأجل.

والسؤال هل سمع نتنياهو ورفاقه عن أتباع "الطائفة السامرية" والذين منحوا الهوية الإسرائيلية من دون أن يتنازلوا عن هويتهم أو جنسيتهم الفلسطينية، كونهم طائفة أقلية، إلا إنهم يعتبرون أنفسهم جزءاً أصيلاً من الشعب الفلسطيني، وينأون بأنفسهم عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ويرون أنه من دون إقامة دولة فلسطينية إلى جانب الدولة الإسرائيلية لن يكون هناك سلام، كذلك "فرقة القرّائين"، والتي تعتقد بالتوراة فقط، وتؤمن بأن الله غضب عليهم وشردهم للأبد، فلا حق لهم بإقامة دولة في فلسطين، وحركة "ناطوري كاراتا" الشهيرة، وهي حركة دينية يهودية مناهضة للصهيونية وأخيراً "حركة ناعمود" وتسعى عبر المظاهرات والحملات التي ينظمها أفرادها لفصل اليهودية عن الصهيونية. هذه هي إسرائيل المنقسمة على نفسها، والتي يتحدث عنها نتنياهو بأنه يريد إسرائيل الكبرى.

(الاتحاد الإماراتية)

يتم التصفح الآن