تقدير موقف

هل نرى هنية مكان عرفات في اتفاق "غزّة – أريحا"؟

يمكن تلخيص الموقف الراهن المتعثّر لمفاوضات غزّة والضغوط الأمريكية والعربية على المقاومة في فكرة واحدة، ألا وهي محاولة واشنطن جعل التاريخ يعيد نفسه. يمكن تلخيصه في أنّ واشنطن وكأنها ترغب بعد ٣٠ سنة كاملة في استعادة لقطة تاريخية مريرة تمكّنت فيها هذه الضغوط من إكراه الطرف الفلسطيني المفاوض على التوقيع على اتفاق يراه مجحفًا.

هل نرى هنية مكان عرفات في اتفاق

كأن واشنطن تريد أن يوقّع هنية في ٢٠٢٤ مكرهًا على اتفاق يُخرج إسرائيل منتصرة - رغم هزيمتها في الحرب - كما وقّع عرفات في ١٩٩٤ مكرهًا في القاهرة اتفاق "غزّة – أريحا".

الضغوط التي مورست على المقاومة قبل موافقتها على صفقة أقرّها ويليام بيرنز نفسه في ٦ مايو/أيار الماضي ورفضتها إسرائيل، لا يمكن مقارنتها بحجم الضغوط الهائلة التي تمارس وتتصاعد منذ إعلان بايدن في ٣١ مايو/أيار عن مقترحه الجديد.

الضغوط على المقاومة شاملة ومركّبة تم فيها استخدام مفرط لنفوذ أمريكا

السبب في ذلك لا يعود لواقع أنّ المقاومة لم تُبدِ مرونة في الاتفاق الأول، بالعكس فقد أبدت الكثير من المرونة ولكنها وافقت في الأخير لأنّ المقترح لم يكن مجحفًا تمامًا وتضمّن العناصر  الرئيسية لموقفها وهي وقف الحرب والانسحاب وإعادة الإعمار، أما إقتراح بايدن فهو مجحف للغاية كما نُقل مكتوبًا كورقة إسرائيلية عبر الوسطاء. 

يعترف المحللون الغربيون والإسرائيليون بأنّ المكتوب خلافًا لخطبة بايدن العامة تضمّن تراجعًا أمريكيًا صريحًا عن مواقف سابقة، فلم يتضمّن على الإطلاق أي بند صريح لإنهاء الحرب كما منح إسرائيل مكاسب في توقيتات عودة النازحين إلى الشمال وأعطاها "فيتو" على السجناء الفلسطينيين الذين تود المقاومة مبادلتهم.

لم تُفلح كل الحيل اللغوية والألاعيب القانونية في سد الفجوة بين موقف المقاومة وموقف نتنياهو الرافض لقرار إنهاء الحرب، حتى لو كان هذا الإنهاء يجسّد رغبة بايدن لأسباب انتخابية بحتة.

اللافت في ضغوط الأسبوعين الأخيرين على المقاومة ليس أنها كانت قاسية وفجة فحسب، ولكن شاملة ومركّبة تم فيها استخدام مفرط لنفوذ أمريكا على جميع الأطراف العربية التي تعمل في إطار الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط والتي تمتلك تأثيرًا على المقاومة.

التطوران المهمّان في هذه الضغوط هما؛ أولًا: الطبيعة الشاملة حيث استخدمت القوة العسكرية والدبلوماسية القسرية والهيمنة الإعلامية الغربية على وسائل إعلام دولية وعربية إبراهيمية أو في طريقها للإبراهيمية. وثانيًا: التورط العسكري الأمريكي المباشر في الحرب وليس فقط عن طريق نهر الأسلحة الذي لا يتوقف لجيش الاحتلال الصهيوني.

أمريكا تريد إحداث تغيير نوعي في نتائج الحرب التي فشلت إسرائيل في تحقيقها

التطور الثاني هو الأكثر خطورة وتبدى في مجزرة النصيرات وما صحبها من تمكن إسرائيل  لأول مرة من تحرير ٤ من أسراها لدى المقاومة. وتعترف مصادر غربية أنّ المعلومات التي أوصلت لمكان الأسرى كانت أمريكية لا تستطيع إسرائيل لوحدها جمعها وأنّ مجموعات من مقاتلي النخبة الأمريكية شاركوا مباشرةً في العملية.

لقد أفصحت حقيقة ما تسرّب من العملية أنّ أمريكا تريد من هذه المشاركة المباشرة إحداث تغيير نوعي في نتائج الحرب التي فشلت إسرائيل في تحقيقها منذ ٨ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وأنّ هذا التغيير ربما يدفع المقاومة لحائط مسدود تجد فيه نفسها مضطرة إلى التخلي عن ثباتها على موقفها الحالي الرافض لاتفاق لا يشمل ضمانات بوقف الحرب.

واشنطن تستهدف من هذا التورط العسكري المباشر غير المسبوق أن تهدي إسرائيل قوّتَي ضغط على المقاومة الصامدة. قوة الضغط الأولى هي الوصول لبعض قادة "حماس" و"الجهاد"  الكبار أسرًا أو قتلًا بما يضعف من الروح المعنوية للمقاومين وحاضنتهم الشعبية.

وقوة الضغط الثانية هي أن تتمكن من تحرير مزيد من الرهائن بمعلومات وقوات نخبة أمريكية بما يضيّع جزءًا مهمًا من ورقة المقاومة الرابحة فيتسرّب إلى المقاومة اليأس إلى النفوس محل الأمل في النصر.

الضغوط السياسية وعناصر الضغط المالي والجيوسياسي والأيديولوجي الديني المتوافرة لدى حلفاء واشنطن العرب تم استنفارها بقسوة من واشنطن وطُلب منهم ممارستها على المقاومة دون هوادة ودفعة واحدة.

نقلت مصادر أمريكية أنّ واشنطن تضغط على قطر لكي تنذر قادة "حماس" أنهم إن لم يوقّعوا على الاتفاق سيتم طردهم من ملاذهم الآمن في الدوحة ويتحوّلون لمطاردين من ملاحقة قانونية دولية أو عمليات الاغتيال الإسرائيلي. دول أخرى طُلب منها أن تستخدم كل وسيلة ممكنة لوقف أي تسهيلات تمنحها للفلسطينيين في هذه المرحلة لإحكام الحصار على المقاومة وحاضنتها الشعبية. حتى الاستخدام الايدلوجي للجذر الإسلامي لـ"الجهاد" و"حماس" لم يتأخّر النظام العربي الرسمي ومشايخه عن تجربته.

تطرح بعض الدوائر الفلسطينية خروج قادة المقاومة من غزّة كأحد الحلول لإنهاء الأزمة وأفتى شيوخ بما يدعم هذا الحل باستدعاء لمثال هجرة النبي من مكة إلى المدينة، ويقولون لماذا "لا يحذو قادة غزّة حذو الرسول الكريم؟!".

في حالة عرفات نجحت الضغوط، فهل تنجح مع هنية وهل يمكن أن نرى "أبو العبد" في احتفال في القاهرة أو الدوحة يوقّع مع بلينكن؟.

المرجح أننا قد لا نرى هذا المشهد على الأقل قريبًا، وأنّ كل الضغوط المشار إليها قد لا تنجح بالضرورة لعدة أسباب:

الأول؛ أنّ عرفات كان القائد الوحيد لمنظمة التحرير الذي يمتلك كل صلاحيات القرار السياسي، ولهذا فإنّ تركيز الضغط عليه كقائد فرد كما حدث مع الرئيس السادات نتج عنه التراجع والتوقيع على اتفاق مجحف. أما هنية فلا يملك القرار لوحده سواء كفرد أو حتى مجموع أعضاء المكتب السياسي لـ"حماس"، إذ يشاركهم فيه وربما بدرجة أكبر قادة "كتائب القسام" في غزّة. في الحقيقة أنّ قادة الميدان لديهم أدوار أكبر في المفاوضات بشأن الحرب ووقفها وتبادل الأسرى.

لم يكن القرار الفلسطيني للمقاومة أقل تبعية للنظام العربي الرسمي مما هو عليه الآن

المقاومون أيضًا ليس لديهم ما يخسرونه فما هو معروض عليهم من واشنطن وتل أبيب هو الاستسلام ورفع  الراية البيضاء وهم يفضّلون عليه الاستشهاد بكرامة. لكن الأهم هو أنهم لا يشعرون بأنهم مهزومون مضطرون للقبول بأي اتفاق، فإذا كان نتنياهو يراهن وجيشه على الوقت فالمقاومة تراهن عليه أكثر. فهي ما زالت تحتفظ بـ١٣٦ أسيرًا إسرائيليًا، وما زالت تحتفظ بما لا يزيد عن نصف الأنفاق وقسم مهم من قواتها، في وقت أُنهك فيه جيش عدوها نفسيًا وانخفضت معنويات الاحتياط ويتدحرج هذا العدو إلى وضع الدولة المنبوذة من شعوب العالم والدولة المارقة التي تنتهك القانون الدولي.

على كثرة السكاكين على رقبتها، ربما لم يكن القرار الفلسطيني للمقاومة أقل تبعية للنظام العربي الرسمي مما هو عليه الآن.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن