المفاجأة الأولى تمثلت باعتذار الرئيس الروسي فلاديمر بوتين عن مقابلة الوفد السوداني في 8 يونيو (حزيران) الجاري وتكليف وزير الخارجية سيرجي لاڤروڤ بهذا الأمر، والمفاجأة الثانية الأكبر، تجسّدت في الفتور الروسي من العرض السوداني الذي تم التعبير عنه بصورتين الأولى عبر ربط الموافقة النهائية بقبول دول صديقة ذات مصلحة ممثلة في المملكة العربية السعودية ومصر، أو ضرورة المصادقة على هذه الاتفاقية بواسطة البرلمان، أما الصورة الثانية فبدت ذات طابع دبلوماسي عبّر عنها المبعوث الروسي الخاص لمنطقة الشرق الأوسط من خلال إشارته إلى إيلاء روسيا الاهتمام بالأمر وأنّ العمل جارٍ لتنفيذ هذا المشروع.
لعلّ التساؤلات الأساسية التي تبرز تتركز حول أسباب عدم الحماس والفتور الروسي من العرض السوداني المقدّم لموسكو، مقارنةً بالاندفاع الروسي عند عرضه في العام 2018.. فلماذا لم تتحمّس موسكو هذه المرة؟!
أوّل المتغيّرات هو ما يرتبط بالتحوّلات التي شهدتها المنطقة عما كان سائدًا في العام 2018 لناحية إنتقال علاقات موسكو مع عدة أطراف بالمنطقة من حالة العداء والحرب الباردة لمرحلة تعاون عقب التطورات التي شهدتها سوريا وآخرها إعادتها إلى جامعة الدول العربية وتطوّر العلاقات بين كل من موسكو والمملكة العربية السعودية ودولة الامارات.
بالنسبة للمعطيات السودانية فإنّ المراقبين يشيرون إلى ضرورة عدم فصل ردة الفعل الروسية تجاه حكومة بورتسودان جراء مواقف قادة الجيش وقائده العام الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان تجاه روسيا، إذ تحدثت تقارير إعلامية عن مشاركة قوات أوكرانية – وهم ألد أعداء روسيا حاليًا - بجانب الجيش السوداني، كما أنّ الدعاية الإعلامية للجيش ظلت توجه إنتقادات لـ"الدعم السريع" بإعتباره حليف "فاغنر" وروسيا بالمنطقة وهو ما جاء على لسان مساعد القائد العام الفريق أول ركن ياسر العطا وهو ما جعله بمثابة الموقف الرسمي للجيش وقياداته.
الشق الثاني لعدم الحماس الروسي يرتبط حسب مراقبين لخيبة الأمل الروسية تجاه قادة الجيش السوداني وقائد الجيش البرهان على وجه الخصوص جراء توظيفه للعلاقات السودانية الروسية ضمن المقايضات للحصول على إعتراف وتعاون مع الدول الغربية، كان أبرزها التنصل من الدعم السوداني لموسكو في حربها ضد كييف الذي أعلنه نائب رئيس مجلس السيادة وقائد قوات "الدعم السريع" الفريق أول محمد حمدان دقلو "حيمدتي" في زيارته لموسكو في فبراير 2022 التي تزامنت مع بداية الحرب وتوظيف البرهان لهذا الأمر لإظهار غريمه حميدتي كحليف لموسكو.
لاحقًا قام قادة الجيش والبرهان بالتواصل مع فرنسا وعرضوا خدماتهم لإنهاء نفوذ حلفاء موسكو في دولة أفريقيا الوسطى إنطلاقًا من الأراضي السودانية وهو الأمر الذي أحدث أزمة ما بين البرهان وحميدتي وأعلن الثاني في يناير 2023 إغلاق الحدود بين الدولتين واتهم يومها جهات "بالسعي لتقويض وزعزعة إستقرار جيران السودان إنطلاقًا من الأراضي السودانية"، وفهم أنّ المقصود قيادات رفيعة بالجيش على رأسهم البرهان شخصيًا.
ويتهم الروس الجيش وإلاستخبارات العسكرية بتعمد الإضرار بمصالحهم المشتركة معهم بتسهيل وصول الفريق الإستقصائي لقناة (CNN) الأمريكية في يوليو 2022 لمواقع عمل الشركة الروسية (ميرقولد) العاملة في مناطق تعدين الذهب شمال السودان في بداية الحرب الروسية الأوكرانية ومحاولة إظهاره كنشاط مشترك بين "الدعم السريع" وروسيا، رغم أنّ الجيش نفسه شريك فيه عبر شركة (ماستر تكنولوجي) التابعة للجيش التي شملتها قائمة العقوبات الأمريكية بعد حرب أبريل 2023.
لكن لماذا لم تلجأ موسكو لإغلاق الباب أمام حكومة بورتسودان من الوهلة الأولى؟ ينظر مراقبون إلى أنّ بوتين تعامل بدهاء كبير تجاه البرهان وحكومته إذ جعلهم يطرقون أبواب موسكو مجبرين لإنعدام أي خيارات أخرى لديهم لتفكيك تحالفهم مع كييف دون أي مجهود بدفعهم للموقف الضد، أما السبب الثاني فكان تعزيز علاقاته بالأطراف الصديقة له في المنطقة خاصة المملكة العربية السعودية ومصر بإظهاره حريصًا على عدم الإضرار بهم بما يجعله في خانة "الحليف الموثوق به المؤتمن" بجانب دعم التوجه السياسي للرياض وجهودها في إنهاء الحرب عبر "منبر جدة".
السبب الثالث، حسب أولئك المراقيين موجّه للأطراف الدولية الأخرى المهتمة بالشأن السوداني بإظهار عدم التمسك بالوجود في السودان أو الإنزلاق في حربه أو توفير غطاء الحماية الدولية للبرهان، وهو ما يجعل موسكو في خانة الإنتظار للتفاوض والمقايضة نظير عدم عرقلته لأي إجراءات مستقبلية تصدر عن الأصدقاء الإقليمين لموسكو أو المجتمع الدولي تجاه السودان أسوة بما حدث في قرار مجلس الأمن الدولي لوقف الحرب في غزّة الذي إكتفت موسكو بتمريره مع عدم التصويت ضده.
حدوث هذا السيناريو يمثّل إنقلابًا في موازين القوى الدولية الخاسر الأكبر منه حكومة بورتسودان بقيادة البرهان لكونها ستكون معزولة تمامًا من أي سند دولي قادر على حمايتها من التوجهات الدولية وستكون خيارتها صعبة للغاية دون غطاء إقليمي أو دولي في ظل حالة تفتت داخلي غير مسبوقة في البلاد.
(خاص "عروبة 22")