كانت عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول (2023) نقطة تحوّل فاصلة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لكنه لم يبدأ عندها، ولا كان الدور الكبير الذي لعبته حركة "حماس" عزفًا منفردًا.
أسوأ ما يحدث في الخطاب المضاد إنكار حق المقاومة على الفلسطينيين بذريعة أنها تكلّفهم تقتيلًا جماعيًا وتجويعًا منهجيًا لا مثيل له في العصور الحديثة، وإعفاء الاحتلال من أية مسؤولية استدعت مثوله أمام محكمة "العدل الدولية" بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية.
في إنكار الحق تناقض مع القانون الدولي والضمير الإنساني معًا. وفي إعفاء الاحتلال تواطؤ على الدم الفلسطيني ولوم للضحية.
المقاومة المسلحة فكرة قديمة ومتجذرة رفعت راياتها منظمات وتيارات سياسية وفكرية عديدة يسارية وقومية
القضية ليست "حماس" بقدر حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم ومستقبلهم بأنفسهم.
نقد "حماس" وأيديولوجيتها من موقع الالتزام السياسي والأخلاقي بالقضية الفلسطينية شيء، وتبني الرواية الإسرائيلية بكامل أهدافها شيء آخر تمامًا.
الأول، مشروع.. والثاني، خطيئة.
بالمقابل، فإنّ نسبة التضحيات الهائلة التي بُذلت إلى جماعة واحدة خروجٌ صريحٌ عن حقائق الميدان، التي أثبتت الوحدة والتعاضد لا الفرقة والتشتت أمام الخطر الوجودي المشترك.
المقاومة المسلّحة ليست اكتشافًا مستحدثًا.
إنها فكرة قديمة ومتجذرة رفعت راياتها منظمات وتيارات سياسية وفكرية عديدة يسارية وقومية في ظروف ومنعرجات اقتضت رفع السلاح دفاعًا عن النفس، أو أملًا في تحرير.
أطلقت "فتح" عام (1965) الرصاصة الأولى. اكتسبت شعبيتها من تضحيات فدائييها وأبطالها وقد حاولت أن تلخّص في بنيتها وأفكارها العامة "الهوية الفلسطينية الجامعة".
بتوقيت متزامن نشأت تنظيمات مسلّحة أخرى أهمها "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين".
بعد نكسة (1967) اتسعت العمليات الفدائية داخل الأراضي المحتلة.
في ذلك الوقت أطلق جمال عبد الناصر عباراته الشهيرة: "المقاومة الفلسطينية وُجدت لتبقى".
بقوة المقاومة والاستعداد للتضحية بدا أنّ هناك تحولًا استراتيجيًا في الفكر السياسي الفلسطيني.
طرحت القضية الفلسطينية على وجهها الصحيح، إنها قضية تحرّر وطني، لا قضية لاجئين يبحثون عن إعانات وإغاثات.
انتقلت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية إلى تنظيمات المقاومة تعبيرًا عن ذلك التطور النوعي الجديد.
اكتسبت المنظمة حضورها من عمق تعبيرها عما أطلق عليه في الأدبيات الفلسطينية "وحدة الشعب والقضية".
لم يحدث ذلك من تلقاء نفسه، ولا كان ممكنًا دون حاضنة عربية تحمي وتدعم.
كان دور مصر تحت قيادة عبد الناصر حاسمًا في نقل قيادة منظمة التحرير الفلسطينية من الخطباء إلى المقاتلين، وإسباغ صفة "الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني" عليها.
بأثر توقيع اتفاقية "أوسلو" تحللت المنظمة وانتفت أدوارها وكان توقيع ياسر عرفات باسمها مقصودًا حتى يكون ذلك هو آخر أدوارها.
في الظروف الحالية يصعب أن يجري نقل مماثل ومستحق في مركز القيادة بمنظمة التحرير الفلسطينية إلى "حماس" والمنظمات الأخرى التي شاركتها شرف القتال في غزّة.
لا نظام عربي واحد مستعد أن يتحمل مسؤولية الموقف، ولا القوة المهيمنة على النظام الدولي سوف تتقبل مثل ذلك الانتقال.
المعضلة الحقيقية الآن أنه لا يمكن العودة إلى ما قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول ويصعب بالوقت نفسه بناء أوضاع فلسطينية جديدة تتسق مع حجم التضحيات الهائلة التي بُذلت.
إنها معركة حقيقية تنتظر اليوم الفلسطيني التالي بعد توقف الحرب على غزّة.
لم تكن مصادفة استهداف فكرة المقاومة بذاتها قبل أن تنقضي الحرب ولا التركيز على شخص يحيى السنوار رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" في غزّة تشويهًا وتعريضًا وتحميلًا له مسؤولية ما لحق بالقطاع من دمار هائل، هو لا بنيامين نتنياهو.
ولم تكن مصادفة أخرى أن تتبارى وسائل إعلام وفضائيات في وصف عملية "طوفان الأقصى" بالحماقة التي لم تتحسب للنتائج المروعة.
كانت تلك دعوات مقصودة للتيئيس العام.
جرى التهجم بإفراط على رجل حياته مستهدفة حيًا أو شهيدًا.
قيل إنّ السنوار يعمل لمجده الشخصي ويطلب دمًا يتاجر به.. فـ"الصمود يعني الموت".
كانت تلك دعوة صريحة لرفع الرايات البيضاء وتسليم مقادير المنطقة إلى اليمين الإسرائيلي المتطرف.
نُصبت ما يشبه المحاكم للشعب الفلسطيني، كأنه متهم بالصمود وعدم الانقلاب على المقاومة.
كان ذلك الصمود الأسطوري في حقيقته تشبثًا بالأرض حتى لا تتكرر مرة أخرى مشاهد نكبة (1948).
المسألة ليست السنوار ومصيره ولا "حماس" ومستقبلها إنها عدالة القضية الفلسطينية أولًا وأخيرًا
بأي منطق سياسي أو أخلاقي لا يصح أن يحاكَم شعب على صموده، أو أن يؤخَذ على مقاومته طلب الشهادة.
إنه التماهي الكامل مع سردية الاحتلال.
بتعبير الروائي والمناضل الفلسطيني غسان كنفاني: "الخيانة ليست وجهة نظر".
في حديث تلفزيوني نادر للسنوار عام (2021) تساءل محقًا: "ما هو المطلوب منا؟!.. أن نُقتل ونُشرد دون حق في الرفض أو الرد"، أو "أن نلعب دور الضحية الطيّبة"!
المسألة ليست السنوار ومصيره، ولا "حماس" ومستقبلها. إنها عدالة القضية الفلسطينية أولًا وأخيرًا، التي استدعت تظاهرات واحتجاجات بمئات الألوف في شوارع العواصم والمدن الكبرى، واعتصامات جامعات النخبة الأمريكية والغربية دون استثناء كما لم يحدث من قبل.
إنها قوة الضمير الإنساني، الذي لا يعرفه الذين يتصورون بالأوهام المفرطة أنّ بوسعهم نفي شرعية المقاومة ودمغها بالحماقة والإرهاب!.
(خاص "عروبة 22")