لم يكن قرار مجلس الأمن قبل يومين بشأن السودان هو جرس الإنذار "الإنساني" الوحيد المنبّه لما يجري في هذا البلد الطيّب، فحسب إحصاءات المنظمات الدولية، يزيد عدد النازحين في السودان، بسبب الحرب التي تدخل عامها الثاني بين جناحَي السلطة "العسكريين"، عن الستة ملايين، مما يوصف بأكبر أزمة نزوح في العالم.
ذهب الحاكم المستبد ولكن لم يذهب نظامه ولا ما خلّفه وراءه من ميراث
كيف وصلنا إلى هنا؟
في مثل هذه الأيام بالضبط، ولكن قبل خمسة أعوام (صيف 2019) لم تكن صور النازحين هي التي تحمل عنوان "السودان" في صور وكالات الأنباء، بل صورة تلك الفتاه الأبنوسية الجميلة "كنداكة الثورة" في ثوبها الأبيض النظيف تقف على سيارة بيضاء تهتف في الميدان.
كيف وصلنا إلى هنا؟
قبل خمسة أعوام كاملة، وتحديدًا في السادس من إبريل (السوداني) بدأ مئات الآلاف من المتظاهرين اعتصامًا أمام مقر القيادة العامة للجيش في الخرطوم. في ذروة تظاهراتهم الشعبية "السلمية" التي كانت قد اجتاحت الأقاليم السودانية كلها مطالبة بـ"العيش والحرية والعدالة الإجتماعية".
لم تمضِ أيام، حتى أسقطت "مظاهرات الخبز والحرية" حكم البشير الذي حكم بعصا السلاح وعباءة الدين ثلاثة عقود كاملة، أضاع فيها باستخدامه الأخرق للسلاح والشعارات الدينية نصف البلاد الجنوبي، وجعل مناطق أخرى كان قد تعامل معها بمنطق السلاح ذاته؛ تهميشًا وتمييزًا عرقيًا ودينيًا، على وشك الضياع.
يومها ذهب الحاكم المستبد، ولكن كالعادة لم يذهب نظامه، ولا ما خلّفه وراءه من ميراث.
لولا ما أحدثه "جيش الاحتلال" بالفلسطينيين في غزّة لكان السودان صاحب المأساة الإنسانية الأفدح
وبغض النظر عن التفاصيل التي كمن فيها الشيطان كعادته، وعبثت بها أصابع إقليمية عدة تخشى أن تصبح هذه الثورة الجماهيرية أو تلك مثالًا يحتذى، وبعد أن سالت دماء المعتصمين والمتظاهرين "السلميين" برصاص قوات الأمن، وفي محاولة نبيلة لحقن الدماء وتوفير انتقال "سلمي" وهادئ للسلطة، وقّعت القوى المدنية الثورية يومها اتفاقًا مع الجيش (المجلس العسكري الانتقالي) يقضي بتقاسم "مؤقت" للسلطة بين المدنيين والعسكرين، كان من المفترض أن يؤدي بعد عامين إلى انتقال كامل لسلطة "مدنية منتخبة".
كيف إذن وصلنا إلى هنا؟
ببساطة، لأن ما كان من المفترض أن يكون انتقاليًا، لم يكن أبدًا كذلك، إذ لم تنتهِ الفترة "الانتقالية"، حتى كان رئيس المجلس العسكري "الانتقالي" قد أصدر قراره بتجميد الاتفاق "الانتقالي"، بل وتقوم السلطات "التي تملك السلاح" باعتقال رئيس الوزراء المدني عبد الله حمدوك، وغيره من القيادات المدنية الحقيقية، وبغض النظر عن ما جرى وقتها من "رتوش تجميلية" استجابة لما كان من ضغوط دولية، إلا أن واقع الحال أن مقاليد الحكم - رسميًا، كما واقعيًا - أصبحت في يد من بيده السلاح: الجنرال عبد الفتاح البرهان، رئيس المجلس العسكري والقائد العام للقوات "المسلحة" السودانية، ونائبه الجنرال محمد حمدان دقلو/ حميدتي؛ قائد الميليشيات "المسلحة"، والتي أنشأتها الدولة ذاتها في يوم من الأيام.
ثم كان أنّ وقتًا طويلًا لم يمضِ، حتى اختلف "الجنرالان" ليلجأ كل منهما إلى ما يملكه من قوة: "السلاح". وفي مثل هذه حالة، فالنتيجة بعد عام من الحرب معروفة. لم يعد هناك مكان لأحلام وهتافات "كنداكة الثورة" الأبنوسية الجميلة، ولا لنقاء ثوبها الناصع، بل للدمار والدماء ومئات الآلاف من النازحين.
بحكم موازين القوى والسلاح لم تكن الفترة الانتقالية انتقالية.
وبحكم موازين القوى والسلاح، نجح العسكريون واقعيًا في احتكار السلطة.
وبحكم الموازين ذاتها، القوة والسلاح، أصبح الاحتكام إلى ميادين "القتال " بديلًا طبيعيًا عن الاحتكام إلى ميادين "الثورة". وأصبح صوت الانفجارات والمفرقعات بديلًا طبيعيًا لأهازيج الميدان وهتافات الحرية. لا غرابة في الأمر.
يبقى في باب العبث بالأمن القومي أن تلجأ السلطات إلى إنشاء مليشيات عسكرية ذات طابع عرقي أو جهوي أو ديني
وبعد،،
كما في غيره، ففي السودان، الذي لولا ما أحدثه "جيش الاحتلال" بالفلسطينيين في غزّة، لكان هو صاحب المأساة الإنسانية الأفدح بعد عام من الحرب بين "جيشيه"، هناك حقائق ثلاثة لا جدال فيها:
1. مهما كانت الذرائع، يبقى في باب العبث بالأمن القومي، أن تلجأ السلطات إلى إنشاء (أو غض الطرف عن تكوين) مليشيات عسكرية ذات طابع عرقي أو جهوي أو ديني.
2. أنّ البشير؛ الحاكم الفرد المستبد والذي كان قد وصل هو الآخر إلى سدة الحكم عبر انقلاب عسكري على حكومة منتخبة، هو الذي فعل ببلده هذا حين أنشأ تلك الميليشيات وسلّحها ليجعل منها إحدى أدوات حماية حكمه.
3. لو لم يكن "انقلاب" العسكريين بجناحيهم (البرهان وحميدتي) في أكتوبر/تشرين الأول 2021 على مشروع الدولة المدنية المعاصرة الذي جاءت به ثورة الميادين، ما كانت الأمور في هذا البلد الطيّب وصلت إلى ما وصلت إليه.
(خاص "عروبة 22")