ثقافة

"صورة المشرق" في هوليود: مركزية الغرب وسردياته الاستشراقية!

يُعرِّف إدوارد سعيد الاستشراق على أنّه التمثيل الغربي للشرق، والذي يتسم غالبًا بالغرائبية والصور النمطية والشعور بالتفوّق، حيث يتم تصوير الشرق على أنه حرملك سلطاني كبير، أو كطبيعة صحراوية قاحلة وأجواء متوحشة ومجتمعات بدائية تنتظر الخلاص والانتشال من الظلام عن طريق التدخل الغربي.

لقد خلّف الباحثون المستشرقون تركة أكاديمية مشوّهة عن الشرق وخارجة عن السياق الواقعي لهذا الشرق الذي يتشح بالغموض، مما أدى إلى تكريس الصور النمطية وتعزيز هياكل السلطة الاستعمارية.

إضافة إلى ذلك، لا تزال المجازات الاستشراقية مستمرة في وسائل الإعلام المعاصرة، حيث غالبًا ما يتم تصوير الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من خلال عدسة الإرهاب والاستبداد والتخلّف الثقافي. أو يتم استغلال التراث الشرقي وتوظيفه لخدمة أجندة سياسية معينة، أو بغرض تسويقه إعلاميًا للأجيال الغربية الجديدة.

كثبان المركزية الغربية المتحرّكة على أرض المشرق

يجوز لنا القول إنّ الاستشراق هو الابن غير الشرعي للمركزية البيضاء، إذ يعمل هذا النظام الفكري العنصري كشكل من أشكال الهيمنة الثقافية، حيث يتم تطبيع البياض وتثمينه وتفضيله على حساب الهويات والتجارب غير البيضاء.

تنعكس هذه المركزية في المناهج الدراسية للمؤسسات التعليمية، وهيمنة الأبطال البيض في الأدب والأفلام، وتهميش وجهات النظر غير الغربية في الخطاب السائد. لا تؤدي المركزية البيضاء إلى الترويج لخرافة التسلسل الهرمي العرقي فحسب، بل تمحو أيضًا مساهمات الثقافات غير البيضاء وفاعليتها، وتحيلها إلى التهميش.

وفي هذا السياق يواجه الفيلم الأمريكي الشهير "كثبان رملية" لمخرجه دينيس فيلينوف، العديد من الاتهامات بالسرقة الثقافية والسطو على حضارة وتراث منطقة مينا واستغلال إرثها الهوياتي والعقائدي. فما هي صحة هذه الادعاءات؟ وهل فشلت هوليود مرة أخرى في تقديم الوجه الحقيقي للشرق بعيدًا عن الدعائية المغرضة والتشويه الممنهج؟.

فيلم "Dune" مقتبس عن الرواية الشهيرة لفرانك هيربرت، والذي عُرف عنه ولعه الشديد بالتراث الشرقي واهتمامه بالعادات والتقاليد في المجتمعات البدوية. افتتن هيربرت بثقافات الصحراء الغنية والتي يشكل الدين جزءًا أصيلًا منها، لذا كان من السهل إسقاط الهوية العربية الإسلامية على حبكة الرواية/الفيلم. غير أنّ العمل ككل عبارة عن قصة تحذيرية ضد الديانات الرسالية والكاريزمية المنظمة، وهذه نقطة أساسية حول كيفية استخدام هربرت للأديان كمؤثر مهم وأداة حبكة لقصته، وليس استهدافًا لديانة عقائدية معينة أو محاولة للإساءة إليها.

إنّ ما يُنظر إليه على أنّه تأثير الإسلام هو في الواقع تأثيرٌ صحراويٌ بدويٌ عربيٌ، أكثر من كونه تأثيرًا دينيًا أو عقائديًا بحتًا، من وجهة نظر الكاتب. سعى الفيلم في نسخته السينمائية إلى بث الحياة في رواية الخيال العلمي الملحمية، ومنحها أبعادًا فنية مركّبة من خلال الصورة والحركة والموسيقى.

تدور أحداث الفيلم في مستقبل بعيد حيث تتنافس البيوت النبيلة على السيطرة على كوكب أراكيس الصحراوي، نرافق البطل الشاب بول أتريدس في رحلته المصيرية التي تتخللها صراعات السلطة المحيطة بالمورد الثمين المعروف باسم التوابل.

خيال هيربرت وكاميرا فيلينوف.. تفكيك بنيوي للسلطوية

يستكشف فيلم "الكثبان الرملية" في جوهره موضوعات السلطة والسياسة والبيئة. تُعد التوابل، وهي مادة حيوية للسفر في الفضاء ومطلوبة في جميع أنحاء الكون، بمثابة استعارة لموارد الأرض الطبيعية المتناقصة. ويعكس الصراع من أجل السيطرة على أراكيس صراعات العالم الحقيقي على النفط والسلع الثمينة الأخرى، مسلطًا الضوء على العواقب المدمّرة للجشع والاستغلال.

يتماشى المشهد المرئي للفيلم مع سرده الغني للقصص وشخصياته المعقدة. يمر بول أتريديس، الذي يجسّد دوره ببراعة تيموثي شالامي، برحلة تحوّل من أمير عديم الخبرة إلى شخصية مسيحية يجلّها سكان الصحراء من الفريمن. تضيف علاقته بوالدته الليدي جيسيكا، التي تلعب دورها ريبيكا فيرغسون، عمقًا عاطفيًا إلى السرد، حيث يخوضان في السياسة الغادرة للمجتمع الإقطاعي الذي يعيشان فيه.

يخلق إخراج فيلنوف، إلى جانب موسيقى هانز زيمر المؤثرة والتصوير السينمائي الأخاذ، تجربة سينمائية غامرة ومثيرة للتفكير في آن واحد. وقد تمّ تصوير المناظر الطبيعية الصحراوية الشاسعة في أراكيس بتفاصيل مذهلة تثير الإحساس بالرهبة والدهشة، بينما يتم تنفيذ مشاهد الحركة في الفيلم بدقة وكثافة.

فيلم "الكثبان الرملية" ليس مجرد ملحمة خيال علمي، بل هو تأمّلٌ في حالة الإنسان وعلاقتنا بالعالم من حولنا. بينما يتصارع بول مع قدراته الجديدة، يواجه أسئلة الهوية والأخلاق وطبيعة السلطة. وفي عالم يتسم بالدسائس والخيانة، عليه أن يخوض طريقًا محفوفًا بالمخاطر ليؤدي دوره كمنقذ لأراكيس.

الفيلم إنجازٌ هائلٌ في السينما الحديثة، حيث يقدّم للجمهور استكشافًا مذهلًا بصريًا وموضوعيًا لواحدة من أكثر قصص الخيال العلمي شهرة. لكن يظل السؤال قائمًا حول مدى قدرة صنّاع السينما في العالم العربي على خوض غمار مثل هذه التجارب الفنية الرائدة، والعمل على توظيف التراث الشرقي وتقديم صورة صحية عن بلاد العرب بعيدًا عن مركزية الغرب وسردياته الاستشراقية المتجاوزة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن