صحافة

في الفاشر كما السودان .. لا اكتراث للبشر

حسن أبوطالب

المشاركة
في الفاشر كما السودان .. لا اكتراث للبشر

أخيرًا أصدر مجلس الأمن بناء على اقتراح بريطاني قرارا يدعو إلى وقف الانتهاكات الجسيمة التي تحدث في مدينة الفاشر كبرى مدن إقليم دارفور، والتي تحاصرها قوات ما يعرف بالدعم السريع، بينما تظل بعض وحدات الجيش السوداني في المدينة تحاول كسر الحصار والدفاع عما يمكن الدفاع عنه. القرار الدولي شامل يدعو إلى أمور كثيرة تدور حول أهمية وقف القتال والعودة إلى المفاوضات بين طرفي الحرب والالتزام بحماية المدنيين كما تم الاتفاق عليه في حوار جدة والمنامة، والامتناع عن الانتهاكات بحق المدنيين خاصة بحق البنية التحتية والمستشفيات، وإتاحة المجال امام المساعدات لتمر دون عوائق للمناطق المنكوبة.

مفردات القرار تُعنى بالحرب في السودان ككل، وإن كانت الفاشر قد احتلت جزءا مهما في القرار، فالأمر يعود إلى الوضع الكارثي الذي تعيشه المدينة وسكانها الأصليون والنازحون إليها من مناطق ومدن أخرى من غرب دارفور ووسطه، كانوا يظنون أن المدينة ستوفر لهم بعض الأمان وبعض المساعدات، فإذا بالجميع يعيش وضعا مأساويا بكل المقاييس، فلا أمن في المدينة والمواجهات بين وحدات الجيش السوداني ومسلحي الدعم السريع لا تتوقف، والطلقات والقذائف تحصد أرواح الناس وهم في بيوتهم أو في الشوارع، وآخر مستشفى في المدينة توقف عن العمل بعد أن دُمرت بعض أجزائه بسبب القتال. أهمية المدينة لطرفي الحرب لا جدال بشأنها، فهي المدينة الأكبر ذات الموقع الاستراتيجي في شمال الإقليم التي تؤمن ممرا رئيسيا لوصول المساعدات الإنسانية، وبها حامية الجيش الأخيرة في إقليم دارفور، بعد أن استولى الدعم السريع على الحاميات الأربع الأخرى في الإقليم، ويرنو إلى الإطاحة بقوات الجيش من موقعه الأخير ليستكمل بذلك السيطرة على كامل الإقليم، تمهيدا لإعلان استقلاله عن نفوذ الحكومة المركزية التي يُسيّرها مجلس السيادة.

هدف استقلال الإقليم وتحديدا سلخه من سيادة الدولة السودانية، ليصبح كاملا تحت سيطرة الدعم السريع وإن لم يُعلن صراحة من قبل قادة الحركة، فكل الشواهد تصب في تأكيده كهدف مركزي لها. فالإقليم كبير من حيث المساحة وبه موارد طبيعية متنوعة تؤمن له دخلا كبيرا، أهمها الذهب الذي تسيطر عليه عائلة دقلو، وزعيمها حميدتي قائد حركة التمرد، وهناك الكثير من مكونات الإقليم القبائلية المتحالفة مع الدعم ترى استقلال الإقليم خلاصا من الحرب وتصحيحا لأوضاع تاريخية. وغالب الأمر أن عدم التصريح بهذا الهدف علنا من قبل قادة الدعم، لأنه يجهض كل ادعاءاتها بأنها تحارب من أجل الإطاحة بالإسلاميين بقايا نظام البشير، ويبغون عودة النظام القديم، ومن ثم يتأكد تمردها على الدولة السودانية ووحدتها الجغرافية.

قبل أسبوع، أعلنت الدعم السريع تشكيل ما سمته بحكومة محلية مدنية في ولاية جنوب دارفور، أسوة بالإدارات المدنية في ولايات الخرطوم والجزيرة وعدد من مدن دارفور الأخرى، التي تقع تحت سيطرتها. وادعت أنه يأتي في إطار الحكم الفيدرالي، وتمكين الناس من إدارة شؤونهم اليومية، بينما مهمة الدعم السريع تقتصر على بسط الأمن والاستقرار. وهنا يبدو التناقض في أكثر صوره مأساوية، ففي كل المناطق يمر عليها الدعم السريع، أو تسيطر عليها، تحدث المآسي الإنسانية التي يندى لها الجبين، والتي تصل إلى انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان وإبادة جماعية لمكونات قبلية معينة كالمساليت، وعشائر معينة من الزريقات التي تعارض عائلة دقلو وتحملها مسؤولية الوضع الكارثي الذي يعيشه السودان ككل.

تشير تقارير الأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية ومنظمات إنسانية متعددة ومكتب المدعي العام للجنائية الدولية، إلى ما يقوم به مسلحو الدعم السريع من سرقة ونهب لممتلكات الناس، وانتهاكات فظيعة بحق النساء والاغتصاب وانتهاك الحرمات بأسلوب ممنهج بهدف الانتقام والاذلال لمكونات قبلية، ووصمها بالعار. تتضمن تلك التقارير قصصا مفزعة، وتكشف عن مستوى التراجع الأخلاقي الذي انزلقت إليه عناصر من الدعم السريع. وفي مقطع فيديو مصور لأحد قادة الدعم بلباسه العسكري نشر على أحد المواقع، ثم تم سحبه، تحدث فيه بوضوح عن اغتصاب النساء بهدف الانتقام، ما يثير الاشمئزاز من مثل هؤلاء الذين يدعون كذبا حرصهم على حياة الناس والحرب من أجلهم.

ما يحدث في الفاشر وحصارها وقصفها بالمدفعية ومنع المساعدات من الوصول إلى أهلها المحاصرين، يجسد صورة مزعجة لحرب عبثية بكل المقاييس، أودت بأكثر من 200 ألف قتيل، ونزوح اكثر من 17 مليون سوداني من أماكنهم الاصلية إلى أخرى، بعضها لا يقل سوءًا وخطرًا عن تلك التي نزحوا منها، ناهيك عن لجوء 8 ملايين سوداني إلى دول الجوار. وفي شهادة إحدى السيدات اللاتي تعرضن لانتهاكات جسيمة، على يد عناصر من الدعم السريع، وصفت الأمر بعبارة بليغة: القصف في كل مكان، والخطف والقتل العشوائي أصبح حدثا عاديا، فلا أحد يكترث بالبشر. في الوقت ذاته تبدو تحركات القوى المدنية ممثلة في تنسيقية القوى المدنية وأحزاب سودانية تاريخية بهدف وقف الحرب، وكأنها خالية التأثير وأقرب الى العدم والعلاقات العامة لا أكثر ولا أقل، ولجوء طرفي الحرب إلى قوى خارجية للحصول على مزيد من الأسلحة والذخائر، بهدف الوصول إلى انتصار حاسم على الطرف الآخر، وغياب أفق التسوية الشاملة، وضعف أدوار المنظمات الدولية بما في ذلك مجلس الامن الدولي الذي لم تعد لقراراته أي قوة لا بشأن السودان ولا غير السودان، وحالة العدوان الإسرائيلي الأمريكي على غزة خير مثال، كلها معطيات تنذر بأن السودان مَاضِ في طريق خطر، ومعاناة شعبه في الداخل، أو فى الخارج ليس لها مخرج حتى الآن.

("الأهرام") المصرية

يتم التصفح الآن