ويذهب داغر بعيدًا في هذا الاستخلاص إلى حدّ قوله إنه يُهيّأ للمرء أنّ "هناك طاعة فطرية للمركز في الحمض النووي DNA للمصريين، يقابلها كره شديد للمركزية يسري في عروق العراقيين". وهذا الاستخلاص معناه أنه طالما أنّ الانصياع/التمرّد إنما هو ظاهرة طبيعية فبالتالي لا إمكانية لتمرّد المصريين مهما بلغ ظلم حكامهم، ولا فرصة لرضا العراقيين مهما تحلّى حكامهم بالديمقراطية.
وتستحّق أطروحة داغر المناقشة المتعمّقة لها لما فيها من أحكام قطعية، وهو ما سوف يحاول فعله هذا المقال والمقال القادم من خلال مجموعة من الملاحظات الأساسية.
إن لم نختلف حول التوصيف الطبوغرافي لكلٍ من مصر والعراق إلا أننا نختلف مع الاستخلاصات التي انتهى إليها منقذ داغر
الملاحظة الأولى؛ أنّ استخدام الجغرافيا في محاولة تفسير السلوك السياسي والثقافة السياسية للشعوب ليس جديدًا، وفيما يخصّ البلاد النهرية تحديدًا فإنّ الكاتب الألماني كارل ويتفوجل وضع في سبعينيات القرن الماضي نظريته عمّا أسماه "الاستبداد الشرقي" وجوهرها أنّ الدول التي تعتمد في حياتها وزراعتها على مياه الأنهار تحتاج إلى سلطة مركزية قوية لتنظيم توزيع المياه ومنع الصراع حول استخدامها. وبشكل عام لا يستطيع أحد أن ينكر تأثير الجغرافيا سياسيًا وثقافيًا وكذلك اجتماعيًا واقتصاديًا، ومن ذلك تأثير التضاريس الوعرة على نمو الشعور بالاستقلال لدى الجماعات المحلية وتشجيع حركات التمرّد والانفصال لديها، ونزوع أهل الصحراء إلى التنقّل وعدم الاستقرار ارتباطًا بحرفة الرعي بعكس سكان الوديان المرتبطين بالزراعة، دع عنك ارتباط التنمية الاقتصادية بعوامل التربة والمياه والمناخ.. إلخ.
وفي توظيف منقذ داغر العامل الجغرافي كعامل يبرّر وحدة مصر تحت حكم مركزي عبر التاريخ وعدم تحدّي هذا الحكم بواسطة حركات انفصالية واتجاه الانقلابات المحدودة التي شهدتها مصر للانقلاب على السلطة لا على الدولة على العكس من تاريخ العراق القديم والمعاصر، ركّز الكاتب على عاملين أساسيين؛ العامل الأول: هو وجود نهر عظيم واحد في مصر هو نهر النيل مقابل وجود نهرين كبيرين هما دجلة والفرات في العراق، بالإضافة إلى وجود شبكة من الروافد المائية الأشبه بالشعيرات الجغرافية التي تساعد على "تقفيص" العراقيين مما يجعل من الصعب التواصل بينهم.
أما العامل الثاني: فهو الجريان السلس للنيل الذي "ينساب هادئًا متبخترًا"، في مقابل الانحدار الشديد للأرض في العراق مما يؤدي لقوة جريان نهرّي دجلة والفرات ويهدّد بمخاطر الفيضان ويستدعي بناء الكثير من السدود، وهذا الأمر يقوّي الروابط المحليّة ويخلق نوعًا من الحكم والإدارة الذاتيين.
المصريون لهم تاريخ طويل في مقاومة ظلم السلطة واستبدادها يعود إلى عام ٢٠٥٥ قبل الميلاد
الملاحظة الثانية؛ أننا وإن لم نختلف حول التوصيف الطبوغرافي لكلٍ من مصر والعراق، وبالذات في ما يخّص الأنهار، إلا أننا نختلف مع الاستخلاصات التي انتهى إليها منقذ داغر، ويمكن التركيز هنا على إنكاره المطلق لأي نوع من التمرّد على السلطة المركزية في مصر وصولًا للقول بأنّ الطاعة تمتزج بچينات المصريين، وهذا غير صحيح بالمرّة فالمصريون لهم تاريخ طويل في مقاومة ظلم السلطة واستبدادها. هذا التاريخ يعود إلى عام ٢٠٥٥ قبل الميلاد عندما انتفض المصريون على المركز في نهاية عهد الأسرة السادسة بسبب ارتفاع الضرائب وتدهور الأحوال المعيشية، وعُرفت هذه الانتفاضة بأنها أول ثورة اجتماعية سجّلها التاريخ. ثم توالى خروج المصريين فيما بعد، فخرجوا على سلطة الملك بطليموس الرابع رفضًا للامتيازات الممنوحة للإغريق والمقدونيين الذين أتوا مع البطالمة، وتبرمًا من الضرائب التي قيل إنها كانت تُفرَض حتى على استنشاق الهواء في فصل الصيف!! وذلك كما جاء في "موسوعة مصر القديمة عن ثورة المصريين على الحكم البطلمي: أسبابها ونتائجها". كما ثاروا ضد الرومان في القرن الثاني الميلادي وقاد ثورتهم واحد من الكهنة، وتعددت ثورات المصريين لاحقًا إبّان الحكم البريطاني من ثورة عرابي إلى ثورة ١٩١٩ إلى ثورة الضباط الأحرار في ١٩٥٢، حتى أن المؤرّخ عبد العزيز جمال الدين اعتبر وعلى العكس تمامًا مما قاله داغر أنّ "الثورة على الطغيان أو الاحتلال تمثّل الإيقاع الثابت لتاريخ مصر منذ تحقـق مشروع الدولة". ولماذا نذهب بعيدًا ونغرق في كتب التاريخ ولدينا ثورة شاركت فيها جموع المصريين وعبرت المناطق والطبقات والأجيال والاتجاهات السياسية في ٢٥ كانون ثان/يناير ٢٠١١.
في المقال المقبل نتابع الملاحظتين الثالثة والرابعة.
(خاص "عروبة 22")