وجهات نظر

انهيار الصهيونية

دأب السياسيون/الأكاديميون الإسرائيليون، أو نخبة الكيان الإسرائيلي المحتل، ليس فقط، على الترويج لسردية تسقط حق الفلسطينيين في أرضهم، وإنما تنكر، أصلًا، الحق الفلسطيني في الوجود. إنها السردية الصهيونية المؤسسة للمشروع "الدموي - الاستعماري - الاستيطاني - الاحتلالي - الإبادي" الإسرائيلي.

انهيار الصهيونية

حول الصهيونية السافرة، نشرت قبل أيام، دورية اليسار الجديد العريقة، نصًا غاية في الأهمية عنوانه: "انهيار الصهيونية"؛ وترجع أهميته إلى أنّ كاتبه هو إيلان بابيه (70 عامًا)، أحد الباحثين الذين ينتمون إلى ما يُعرف بـ"المؤرخين الجدد"، وهم مجموعة من المؤرخين الإسرائيليين الذين ظهروا في ثمانينيات القرن الماضي، ودأبوا على القيام بمراجعة علمية شاملة للسردية الصهيونية للصراع العربي الإسرائيلي.

إنها لحظة شبيهة بما جرى في الأيام الأخيرة لمعركة جنوب أفريقيا التاريخية في مواجهة النظام العنصري

ومن أهم ما أنجزته تلك المدرسة، حسب الدكتور عبد الوهاب المسيري، هو الكشف عن السردية الحقيقية لـ"الوقائع الممنهجة" للقضاء على الشعب الفلسطيني. وذلك منذ إطلاق يد التشكيلات العصابية في تخطيط وتنفيذ المذابح الإسرائيلية ضد الفلسطينيين منذ وعد بلفور 1917 وحتى النكبة في 1948، مرورًا بالتهجير القسري للفلسطينيين؛ والحروب "الإبادية" التي جرت تحت مظلة عملية السلام الهش التي انطلقت مع تسعينيات القرن الماضي ولم تزل مستمرة إلى اليوم. في هذا السياق، وبالرغم من الدموية الصهيونية في الماضي والحاضر، إلا أنّ "بابيه" يرى أنّ الانهيار الصهيوني حتمي.

ينطلق "بابيه" في رؤيته من أنّ "طوفان السابع من أكتوبر/تشرين الأول كان بمثابة زلزال ضرب كل ما هو قديم"، كان مستقرًا فيما يتعلق بالسردية الصهيونية وممارساتها الوحشية. نعم "كانت الشروخ قد بدأت في الانكشاف"، إلا أنها اليوم وبعد انطلاق الطوفان، تبيّن أنّ تلك الشروخ قد طالت "بجلاء الأسس"؛ ما يدل على أنّ "الانهيار" وشيك. فدروس التاريخ تؤكد، يكتب بابيه، على أنّ "الإفراط في استخدام الأساليب الدموية" يؤدي إلى اندحار القوة الغاشمة و"سقوط الصهيونية". إنها لحظة شبيهة بما جرى في الأيام الأخيرة لمعركة جنوب أفريقيا التاريخية في مواجهة النظام العنصري.

في هذا الإطار يرصد "بابيه" ستة مؤشرات دالة على أنّ الصراع الفلسطيني ــ العربي/الصهيوني يشهد بداية النهاية "للمشروع الصهيوني". فما هي تلك المؤشرات؟

المؤشر الأول؛ تمزق المجتمع الإسرائيلي اليهودي؛ ويقصد به الانقسام المجتمعي الحاد الذي قسم المجتمع إلى معسكرين: معسكر "دولة إسرائيل" القومي العلماني، ومعسكر "دولة يهودا" الديني؛ حيث برزت إلى أرض الواقع - في المجال العام - الخلافات الأساسية بين المعسكرين الأيديولوجية والمعيشية والهوياتية/الثقافية. ويشار هنا إلى إقدام كتلة من المعسكر الأول تبلغ أكثر من نصف مليون شخص إلى ترك إسرائيل بعد الطوفان.

المؤشر الثاني؛ الأزمة الاقتصادية؛ إذ وضح تمامًا كيف أنّ الطبقة السياسية ذات السلوك العسكري الحربي الصهيوني العنصري الاحتلالي الإبادي ليس لديها سياسة لتصويب الموازنة العامة للكيان الإسرائيلي. وإنّ الانفاق العسكري المطرد قد فرض عليها الاعتماد التام على المعونة الأمريكية. ما فاقم سوء الأحوال الاقتصادية المجتمعية ودفع النخبة الاقتصادية/المالية إلى تحويل أموالهم إلى خارج إسرائيل.

"خسارة جزئية" لفاعلية جماعات الضغط اليهودية التي تعتمد على الصهيونية المسيحية في دعم إسرائيل

المؤشر الثالث؛ العزلة الدولية المتنامية لإسرائيل؛ وهو ما جعل إسرائيل، حسب وصف "بابيه"، "دولة منبوذة"؛ وفي هذا المقام، يوجه الكاتب النظر إلى دور المحكمتين: العدل الدولية، والجنائية الدولية، كذلك رؤى المجتمع الدولي والنخب العالمية في ترسيخ النظرة "النبذية" لإسرائيل، وإطلاق حملات المقاطعة، وتَشكُّل حركات التضامن مع الفلسطينيين في كل مكان.

المؤشر الرابع؛ التغيير الجذري للشباب اليهودي حول العالم؛ فالمتابع لمجريات الأمور على مدى الأشهر التسعة الماضية سوف يلحظ، حسب "بابيه"، مدى ما طال الشباب اليهودي من رغبة في التحرر من أي ارتباط يربطهم بالصهيونية وكيف أنّ البعض بات منخرطًا في حركة التضامن مع فلسطين.

وفي هذا المقام، يرصد "بابيه" ما وصفه "بالخسارة الجزئية" لفاعلية جماعات الضغط اليهودية التاريخية (إيباك في الولايات المتحدة الأمريكية) والتي كانت تعتمد على الصهيونية المسيحية في دعم إسرائيل ومخططاتها.  

المؤشر الخامس؛ ضعف الجيش الإسرائيلي؛ فبعيدًا عن الاستحواذ على جديد السلاح المتطور تكنولوجيًا، إلا أنّ إدراكًا شعبيًا إسرائيليًا أصبح حاضرًا بقوة مفاده "عدم قدرة وعدم استعداد إسرائيل للدفاع عن نفسها". ما عكس "تشاؤمًا حول الجيش أدى، بالتالي، إلى تعميق الانقسام السياسي الداخلي".

المسألة لم تعد تحقيق السلام إنما "إنهاء الاستعمار"

المؤشر السادس؛ تجديد طاقة الأجيال الجديدة الفلسطينية؛ من الأهمية بمكان (يلفت نظرنا "بابيه")، معرفة أنّ سكان قطاعي غزّة والضفة يُعتبرون من "المجتمعات الأصغر سنًا (الشابة) في العالم". وهو عامل سيكون له تأثيره الفاعل، المستقبلي، في استمرارية النضال من أجل الحرية، والانعتاق من هيمنة القناعات السلامية التي تبنتها القيادات التي شاخت، من خلال تقديم أطروحات شابة تضمن العدل المستدام وعودة الحقوق لأصحابها.

ويطرح "بابيه" سؤالًا ختاميًا في نهاية النص، وهو سؤال في حقيقته لا بد أن يُطرح من جانبنا نحن من عشنا المأساة على مدى عقود، هل من المنتظر أن نكون على استعداد بالبديل؟ وهنا يوجه "بابيه" نظرنا للصراعات العربية الداخلية والبينية التي يجب أن تتوقف. ومن ثم إعادة تقديم طرح فلسطيني يستثمر الدعم الدولي والمأزق الداخلي الإسرائيلي والتطلعات الشبابية الساعية للعدل الحق والمستدام. فالمسألة لديه لم تعد تحقيق السلام وإنما "إنهاء الاستعمار"، فبهذا المنطق يمكن الاستفادة من انهيار الصهيونية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن