أحدث التقارير الصادرة عن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين؛ خرجت لتحث الأطراف على ضرورة وضع حد للصراع في السودان، وسط مخاوف جدية بشأن تزايد أعداد النازحين الذين يضطرون للفرار، بحثا عن الأمان فى ظل حالة مركبة من الفوضى والتهديد. المفوضية قدرت في النصف الثانى من شهر يوليو الحالي، أعداد النازحين بأكثر من (740 ألف لاجئ) وصلوا إلى دول الجوار في حالة إنسانية بالغة الصعوبة، الأعلى في نسب الاستقبال تشهده مصر وتشاد وإثيوبيا وإفريقيا الوسطى. فضلًا عن ذلك هناك بالمشهد زاوية أخرى تتعلق بنحو (185 ألف لاجئ) يمثلون جزءًا ممن كانوا في استضافة السودان من الأصل، اضطروا بعد اندلاع الاشتباكات الأخيرة إلى الانتقال لمناطق أكثر أمانًا داخل البلاد، ومن ثم باتوا عالقين فى حلقة مفرغة لا نهاية لها من النزوح المتواصل!
المفوضية سجلت رقمًا قدر بنحو (3٫5 مليون شخص) من إجمالي من نزحوا عبر الحدود السودانية، إلى دول الجوار وداخل البلاد منذ اندلاع القتال فى شهر أبريل الماضي. ولا تملك المفوضية في الوقت الراهن سوى تقديم الشكر والامتنان الكبير، للدول التى حرصت على إبقاء حدودها مفتوحة لاستقبال هذا التدفق البشري، وتواصل مناشدتها طوال الوقت لتلك الدول لإزالة أي عوائق تحول دون دخول المدنيين الفارين من الأراضي السودانية. بما في ذلك الأفراد «غير المسجلين» حتى يتمكن جميعهم التماس الأمان والحصول على الحماية والمساعدة. فالمفوضية وهذا المشهد الإنساني المروع برمته؛ صارا فى عهدة استجابات دول الجوار وقدراتها التي تقدمها لاحتواء الأزمة. يأتي ذلك بسبب تخاذل الجهات المانحة، فما طالبت خطة الاستجابة الإقليمية بتوفيره للاجئين بشكل عاجل (566 مليون) دولار، كي تتمكن من تقديم المساعدة للنازحين فى دول الجوار وحدها ولفترة أولية وجيزة، لم تتلق المفوضية منها سوى 24% أي ما يقل عن ربع المبلغ المحدود من الأصل. هذا بدوره حرم جهود الاستجابة المشتركة بين الوكالات الاغاثية العاملة داخل السودان، من الحصول هي الأخرى إلا على ما نسبته 23% فقط مما كان مخصصًا لها من أصل هذا المبلغ.
ركزت التقارير الصادرة حديثًا على ما جرى اعتباره تداعيًا خطيرا لما يجري فى العاصمة الخرطوم، أثبت فيها تصاعد النزاع فى مناطق دارفور وكردفان وولايتي النيل الأبيض والنيل الأزرق، أدى ذلك إلى حدوث نزوح داخلى واسع النطاق، فضلًا عن وقوع إصابات جسيمة ووفيات بالمئات بين المدنيين.
فريق المفوضية العامل فى ولاية النيل الأبيض؛ أبلغ خلال الأسابيع الماضية بوفاة ما يقرب من (300 طفل) لاجئ من جنوب السودان، كانوا في وضعية النزوح مع أسرهم قبل بداية الصراع، وسجلت أسباب الوفاة جميعها اشتباه إصابتهم بالحصبة وسوء التغذية حيث تضررت سبل عيشهم على نحو بالغ، منذ بدء الصراع، ومزاحمة النازحين الجدد من أصحاب الجنسية السودانية لهم في الولاية. وربما تبدو المفوضية فى حالة سباق مع تمدد المأساة، فهى تبذل فى الواقع عبر أطقمها جهدًا كبيرًا من أجل تقديم مواد الإغاثة الأساسية والمأوى، للنازحين حديثًا واللاجئين الجدد في داخل السودان وفي الدول المجاورة، لكنها تواجه نقصًا حادًا فى إمكانية توفير الوجبات الساخنة والمياه النظيفة والرعاية الصحية، فيما باتت المناطق الحدودية شديدة الاكتظاظ بسبب التدفق المستمر للأشخاص عليها، في ظل خشية أن تتسبب مخاطر الفيضان القادم في إضفاء مزيد من التعقيد في إيصال المساعدات الإنسانية.
المفارقة المركبة؛ أنّ دولة السودان قبل الأزمة الراهنة كانت موطنًا لعدد تراوح بين (1٫1 مليون) و(1٫5 مليون) لاجئ، معظمهم من إثيوبيا وإريتريا وجنوب السودان. وكان لديها كتلة نزوح داخلية من المواطنين السودانيين تتجاوز (4 ملايين) شخص، يتوزعون على مختلف المناطق والولايات، لذلك فنحن أمام بلد يعوم في الأصل على إشكالية واسعة للجوء والنزوح، لم تتوافر لها الاستجابات الدولية الفعالة بعد في تقديم لا الحلول ولا المساعدات الكافية لتقليص تلك الحالة. لهذا أطلق المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين «فيليبو غراندى» صيحة استغاثة للمرة الأولى: «هذه الأرقام مذهلة، من المؤسف أن المدنيين الذين لا علاقة لهم بهذا الصراع ينزحون عن ديارهم ويخسرون سبل عيشهم كل يوم». الثابت أنّ كثيرا من النازحين بداخل السودان، وبعض الذين تمكنوا من الوصول إلى المعابر الحدودية مع دول الجوار، واجهوا تحديات هائلة فقط من أجل الحفاظ على حياتهم، فى حين سقط البعض منهم قتيلا رغم محاولات الحماية. فعندما يجتاح القتال المناطق التي يوجدون فيها، أو تتقاطع طرق فرارهم مع المجموعات المسلحة تصبح حياتهم عرضا جانبيا يمكن فقدانه بسهولة مرعبة. لهذا تزداد الحاجة كل يوم إلى قدر أكبر من الاستجابات المتكاملة، التي تضع الحماية جنبًا إلى جنب مع تقديم الإعانات وتوفير سبل الإعاشة. وأن يستشعر جميع أطراف الصراع، وجميع المتداخلين من خارج السودان، أن الوقت قد حان كي يضعوا حدا لهذه الحرب المأساوية.
في داخل مصر، تقود مفوضية شئون اللاجئين جهود التنسيق المشترك بين وكالات الأمم المتحدة، بالتعاون مع الحكومة المصرية من أجل تقديم الدعم للأشخاص الذين يحتاجون إلى الحماية الدولية، ممن يعبرون الحدود قادمين من السودان. الأمم المتحدة تقوم بتسليم المساعدات وتوزيعها من قبل الهلال الأحمر المصري على الوافدين. هذه المنظومة تمثل «قصة نجاح» تنسج في أصعب الظروف الممكنة، وتضغط عليها بقوة تنامي الأعداد الوافدة، حتى صارت السلطات المصرية تتعامل مع رقم جديد شهريًا. الجهات الأممية، ومعها الداخل السوداني، تعوّل على قدر الانتباه الذي أولته أخيرُا بالقاهرة آلية «دول جوار السودان»، لحجم وخطورة تلك القضية في بُعدها الإنسانى الذى لا تخطئه العين ولا الأرقام الرسمية.
("الأهرام") المصرية