اقتصاد ومال

هل أصبح الغرب غنيًا بفضل الاستعمارية؟ (2/2)إجابات حديثة حول سؤال مفصلي

تطرقنا في المقال السابق إلى المستجد البحثي الذي كشفت عنه دراسة حديثة الإصدار، (مايو/أيار 2024) عن معهد الشؤون الاقتصادية بلندن لكبير الباحثين الاقتصادين كريستيان نيميز (Kristian Niemietz) تحت عنوان: "قياس الإمبراطورية: تحليل تكلفة ومنفعة الاستعمارية الغربية"، والتي خلُصت إلى نتائج تتجاوز المبالغة الماركسية في التأثير الإيجابي للاستعمارية على الرأسمالية، كما تقترب إلى حد ما من النظرية الليبرالية التي تقول إنّ الاستعمارية كان لها أثر سلبي على الاقتصاد الغربي.

هل أصبح الغرب غنيًا بفضل الاستعمارية؟ (2/2)
إجابات حديثة حول سؤال مفصلي

بين القرن 17 وبداية القرن 19، أصبحت بعض العائلات في بريطانيا فعلًا غنية بفضل انخراطها في تجارة الرق أو النشاط الزراعي في مستعمرات جزر الكاريبي، في إنتاج السكر والتبغ والقهوة ومنتجات أخرى، حيث كان يُستخدم العبيد العمل الزراعي في تلك المستعمرات. فبين 1660 و1815 خاضت بريطانيا حروبًا من أجل الحفاظ على حقوق تجارية والحفاظ على المستعمرات الزراعية في المحيط الاطلنطي وفي المستعمرات الامريكية ولفرض القانون البحري ومكافحة القرصنة (يمكن العودة لفيلم "قرصان جزر الكاريبي" من باب الاستئناس).

كانت المنافع من المستعمرات قليلة مقارنة بحجم الاقتصاد البريطاني ولم تكن تمثّل إلا نسبة محدودة من الاستثمارات

لكن السؤال الذي يُطرح من منظور تحليل المنفعة والتكلفة: هل ارتفع الدخل القومي البريطاني بفضل الناتج الاقتصادي للمستعمرات وتجارة الرق واستخدامهم في عمالة زراعية رخيصة في تلك المستعمرات؟ أم أنّ تكاليف تأمين وإدارة تلك المستعمرات فاقت المنافع المتوقعة التي دفع ثمنها المواطنون البريطانيون غير المعنين بالسياسة الإمبراطورية من الضرائب؟

تفيد الحجج الإمبريقية التي يقدمها صاحب الدراسة أنّ اقتصاد الإمبراطورية كان اقتصادًا سيئًا غير فعّال، ومبذرًا للموارد ولم تستفد منه إلا أقلية تجارية وسياسية ولم يستفد منه مجموع الاقتصاد البريطاني، ومن المحتمل أنّ السياسة الاستعمارية لبريطانيا حققت خسارة صافية.

كانت التجارة والاستثمار الأجنبي تمثّل نسبة صغيرة من الاقتصاد البريطاني حيث لم تكن تتوفر سفن تجارية - كما اليوم - من أجل التجارة بأحجام كبيرة مع مسافات طويلة. ولهذا، كانت التجارة البريطانية تتم مع جيرانها في دول أوروبا الغربية وليس مع المستعمرات في المحيط الأطلسي. وكان تمويل الأنشطة الزراعية في المستعمرات يعتمد على الادخار الوطني وليس على الأرباح المحصلة من المستعمرات.

لقد توصّل بعض المؤرخين إلى أنّ حجم تجارة الرق كان يمثّل نسبة 8 في المئة من الاقتصاد البريطاني في تلك الفترة، وأنّ زراعة السكر لم تمثّل إلّا نسبة 2.5 بالمئة من قيمة الاقتصاد البريطاني.

توصلت دراسة تاريخية جديدة في 2023 إلى أنّ تجارة الرق أضافت 3.5 بالمئة إلى الدخل القومي البريطاني في تلك الفترة، وهو رقمٌ ضعيفٌ لا يشكل تأثيرًا كبيرًا على مستوى الثروة الوطنية.

بعد 1850 بدأت بريطانيا تفقد الإمبراطورية لكنها لم تشهد تراجعًا في الدخل القومي بل بالعكس ازداد

لقد كانت هناك منافع من الاقتصاد الاستعماري عادت بالفائدة على بعض الأقليات التجارية والسياسية لكن تلك الفوائد كان يمكن أن تتحقق بدون وجود مستعمرات، لأنّه كان ممكنًا الحصول عليها من خلال التبادل التجاري مع بلدان غربية، ولهذا لا يمكن الجزم أنّ بريطانيا أصبحت غنية بفضل الأرباح من المستعمرات. والدليل الآخر هو أنّه بعد 1850 بدأت بريطانيا تفقد الإمبراطورية لكنها لم تشهد تراجعًا في الدخل القومي بل بالعكس ازداد بعد هذه المرحلة.

كانت المنافع من المستعمرات قليلة مقارنة بحجم الاقتصاد البريطاني، لأنّها لم تكن تمثّل إلا نسبة محدودة من مجموع الاستثمارات البريطانية ككل. وعندما نحسب التكاليف الضريبية التي صُرفت على أمن وإدارة المستعمرات ستكون النتيجة سلبية، وبالنتيجة، لا يوجد أدلّة قوية على صحة أطروحة ماركس - وليامز حول ربحية المستعمرات وتحويل الأرباح لتمويل الرأسمالية في البلد الأم في جزر الكاريبي.

وإذا كانت هناك منافع اقتصادية للمستعمرات فيمكن أن يكون لها أثر على الاستهلاك وليس على الإنتاج، والأمر يكون محصورًا في الجيل الذي كانت له خبرة في المستعمرات ولم يكن لذلك أي أثر على الثروة الوطنية في بريطانيا.

ينتهي الباحث بالقول إنّ التأثير الاقتصادي للمستعمرات على الرأسمالية عندما يكون إيجابيًا يكون محدودًا (استهلاك بعض العائلات وليس على الإنتاج)، وعندما يكون تأثيره كبيرًا فسيكون سلبيًا بفعل التكاليف الضريبية التي تفوق المنافع.

في الأخير نتساءل: هل هذه النتيجة التي انتهى إليها الكاتب بخصوص عدم وجود تأثير للاستعمارية على الاقتصاد البريطاني تنطبق على الاستعمارية في حالة فرنسا وبلجيكا وألمانيا؟ ربما ستكون القصة مختلفة، وهو ما سوف نتطرّق إليه لاحقًا.


لقراءة الجزء الأول

يتم التصفح الآن