لا توجد هناك أطروحة عربية حصلت على الإجماع ولاقت انتشارًا وشعبيًة مثل تلك الفكرة القائلة إنّ الغرب أصبح غنيًا بسبب السياسات الاستعمارية في القرنين 18 و19. وقد عادت هذه الفكرة للظهور مؤخرًا في بريطانيا، وخاصّة في سنة 2020 من خلال تحركات طلابية مطالبة بإزالة تماثيل لشخصيات تجارية شكلت ثروتها من خلال تجارة الرق، إلى أن تعهد رئيس بلدية لندن بمراجعة قائمة أسماء التماثيل والبنايات والشوارع في ضوء التورط في الماضي الإمبراطوري للمملكة.
دراسة حديثة خلصت إلى نتائج تقترب من النظرية الليبرالية التي تقول إنّ الاستعمارية كان لها أثر سلبي على الاقتصاد الغربي
معلوم أنّ نظرية "الغرب الرأسمالي ازدهر بفضل السياسة الإمبريالية الاستعمارية"، أطروحة انتشرت في العالم العربي منذ السنوات 1930 مع انتشار التيارات الشيوعية والقومية في المنطقة كما بيّن ذلك على سبيل المثال مؤخرًا، خالد زيادة في سلسة مقالات في "عروبة 22"، ولكن بسبب انحسار التيار الليبرالي العربي مبكرًا قبل 1930 لم نسمع في العالم العربي بالنظريات الليبرالية حول الاستعمارية التي مثّلها آدم سميث البريطاني وفرديرك باستيا الفرنسي وألكسيس دي طوكفيل الفرنسي، حيث كانت توجهاتهم مضادة للسياسة الاستعمارية على أساس منظور اقتصادي يقوم على المقارنة بين تكاليف الاستعمارية ومنافعها، كما برهنوا كلهم أنّ تكاليف السياسة الاستعمارية فاقت منافعها المحدودة على أقلية تجارية وسياسية مقارنة بالتكاليف التي دفعها مواطنو الدول الغربية من خلال الضرائب الباهظة، وقدّموا أيضًا تفسيرات لماذا تمسّك الغرب بتلك السياسات رغم عدم ربحيتها.
من هذا المنظور الاقتصادي الليبرالي للسياسة الاستعمارية صدرت مؤخرًا (مايو/أيار 2024) عن معهد الشؤون الاقتصادية بلندن لكبير الباحثين الاقتصادين كريستيان نيميز (Kristian Niemietz) دراسة تحت عنوان: "قياس الإمبراطورية: تحليل تكلفة ومنفعة الاستعمارية الغربية" (Imperial Measurement: A Cost–Benefit Analysis of Western Colonialism)، وتعتمد الدراسة على مناقشة النظريات الماركسية والليبرالية حول علاقة الغرب الرأسمالي بالسياسة الاستعمارية وترجع إلى دراسات جديدة في الاقتصاد التاريخي والتاريخ الاقتصادي، وقد خلُصت الدراسة التي بين أيدينا إلى نتائج تتجاوز المبالغة الماركسية في التأثير الإيجابي للاستعمارية على الرأسمالية، كما تقترب إلى حد ما من النظرية الليبرالية التي تقول إنّ الاستعمارية كان لها أثر سلبي على الاقتصاد الغربي.
المفكّرون الليبراليون كانوا معارضين للسياسة الاستعمارية البريطانية على أساس التحليل الاقتصادي
يرجع الباحث الأصول الفكرية لموجة الاحتجاجات الطلابية المطالبة بإزالة التماثيل التي تعود لعهد الإمبريالية البريطانية إلى نظرية أريك وليامز (1944)، والذي اعتبر أنّ الرأسمالية البريطانية قامت على أساس استغلال المستعمرات في جزر الكاريبي حيث وظّفت عمالة رخيصة عبودية في إنتاج السكر والتبغ والقهوة بأسعار رخيصة وحققت أرباحًا كبيرة موّلت الثورة الصناعية. وهي أطروحة قال بها ماركس (1860) قبله الذي اعتبر أنّ أجور العمال والرساميل في بريطانيا تأتي من عروق ودماء العبيد في المستعمرات نفسها.
والحال أنّ الدراسة حديثة الإصدار كشفت لنا في المقابل ما نجهله عن الرأي الليبرالي حول الموضوع، حيث إنّ المفكّرين الليبراليين من قبيل أدم سميث (1776) كانوا معارضين للسياسة الاستعمارية البريطانية على أساس التحليل الاقتصادي، ومن ذلك أنّ هذه السياسة كانت غير فعّالة وغير مجدية اقتصاديًا ومكلّفة للخزينة العمومية والأرباح منها محدودة، إضافة إلى أنّها كانت تخص عددًا محدودًا من التجار وحسب، مقارنة بتكاليفها الباهظة التي يتحملها المواطن البريطاني الذي يدفع الضرائب ولا يستفيد من المنافع.
(خاص "عروبة 22")