من هنا، كان حتميًا وفقًا لخبرة الظاهرة الاستعمارية وحركات التحرر التي تتولد كرد فعل لها أن تنشأ ظاهرة مقاومة الاحتلال، وهو ما يشهد به تاريخ الشعب الفلسطيني في مواجهة المشروع الصهيوني، ليس فقط في أعقاب عدوان ١٩٦٧، وإنما منذ بداية ذلك المشروع، غير أنّ الانفصال الجغرافي بين الضفة وغزّة أفضى إلى اختلاف ظروف النضال التحرري بينهما في مراحل مختلفة رغم تعرضهما سويًا للمشروع الاستيطاني الإحلالي نفسه.
ترتيبات "أوسلو" فرضت قيودًا على المقاومة ولم تُفلح في إسكاتها
وعلى سبيل المثال فقد كان هناك نشاط لافت للفدائيين في غزّة في خمسينات القرن الماضي برعاية الإدارة المصرية آنذاك ضد المستوطنات الإسرائيلية في النقب، وهو ما يختلف عن وضع الضفة التي أصبحت حتى ١٩٨٨ جزءًا من الأردن، وتدور الأيام وتصبح الضفة وغزّة خاضعتين لترتيبات "أوسلو" المعروفة التي أدى فشلها إلى تفجر انتفاضة الأقصى ٢٠٠٠، والتي أفضى تصاعد المقاومة في إطارها إلى إجبار القوات الإسرائيلية على الانسحاب من غزّة في ٢٠٠٥، وتفكيك المستوطنات القريبة منها في سابقة هي الأولى من نوعها، وقد سمح هذا للمقاومة في غزّة بحرية حركة أكبر رغم كل القيود الإسرائيلية المعروفة، والتي وصلت إلى حد الحصار الكامل بعد فوز "حماس" بانتخابات ٢٠٠٦، وبالذات بعد انفرادها بحكم القطاع عقب الصدام الدامي مع "فتح" في ٢٠٠٧.
على الرغم من ذلك، فقد نجحت فصائل المقاومة في غزّة في بناء نفسها على نحو شاهدنا تجلياته في المواجهات مع إسرائيل في اعتداءاتها المتكررة على غزّة منذ نهاية ٢٠٠٨، ونشاهد حاليًا ذروة هذه التجليات في المواجهة الحالية التي تكمل شهرها التاسع بعد أيام من كتابة هذه المقالة.
كذلك شهدت الضفة دائمًا إرهاصات للمقاومة وتجليات مشهودة لها، وبالذات بعد خروجها من مظلة السيادة الأردنية، وإن كانت ترتيبات "أوسلو" قد فرضت قيودًا على المقاومة وإن لم تُفلح في إسكاتها، بدليل المعارك الباسلة ضد الاقتحامات الدائمة للجيش الإسرائيلي، حتى في المناطق التي يُفترض خضوعها للسلطة الفلسطينية.
ومع ذلك لا شك أنّ هذه القيود قد أحدثت فارقًا واضحًا في الدرجة، لكن هذا لم ينجح أبدًا في الفصل بين ساحات النضال الفلسطيني في غزّة والضفة، بل وداخل خطوط ١٩٤٨، وعندما تفجر "طوفان الأقصى" تمثل أحد الرهانات في أن تفضي المواجهة الجديدة إلى انتفاضة شعبية عارمة في الضفة، ولم يُخْفِ أعداء الشعب الفلسطيني شماتتهم عندما لم يحدث هذا على نحو فوري، وفاتهم أنّ هذه العمليات التاريخية لا تحدث بطريقة آلية، وإنما تتراكم مقوماتها تدريجًا حتى تأتي اللحظة المناسبة تاريخيًا لاكتمال العمل المقاوم.
وهكذا أخذت أعمال المقاومة في الضفة تتطور ببطء حتى وصلت الأمور في ٢٧ يونيو/حزيران الماضي إلى أن تزيد خسائر القوات الإسرائيلية في الضفة عنها في غزّة في ذلك اليوم، فقد قُتل ضابط وأُصيب ١٦ جنديًا بجروح بعضها خطير وفقًا للمصادر الإسرائيلية التي يُعْرف عنها كذبها في أرقام الخسائر المعلنة، ونجمت هذه الخسارة عن كمين لقوة إسرائيلية في جنين الباسلة، وهو ما يُبَشر بأنّ المقاومة في الضفة تسير على خطى نظيرتها في غزّة، ويتسق مع الخبرة التاريخية لتطور حركات التحرر الوطني عالميًا في مواجهة الاحتلال، وقد وصل الأمر بنتنياهو إلى حد تحذيره للإسرائيليين من احتمال إطلاق صواريخ من الضفة على أراضيهم في غضون عامين أو ثلاثة، وصحيح أنه كان يريد بهذا أن يبرر ما يفعله في الضفة، لكن الصواب لم يجانبه في أنّ منحنى تطور المقاومة وإمكاناتها في الضفة صاعد طالما بقيت السياسات الإسرائيلية على ما هي عليه.
المستقبل في الضفة مفتوح على كل الاحتمالات
والمفارقة أنّ المشروع الصهيوني الاستيطاني الإحلالي في الضفة يتصاعد في الوقت نفسه الذي تتصاعد فيه المقاومة، كما شهدنا في قرارات سموتريتش الأخيرة التي تبنتها الحكومة الإسرائيلية، والمفضية إلى توسع في الاستيطان وتسارع فيه، وليس هذا بالجديد على السياسة الإسرائيلية، ولكن الأخطر أنّ القرارات الأخيرة انطوت على مزيد من إلغاء اختصاصات السلطة الفلسطينية بموجب اتفاقية أوسلو، وحرمان أعضائها من بعض الامتيازات، وهو تأكيد جديد وقاطع على إفلاس الحل السلمي عامة، ونهج "أوسلو" خاصة، والواجب أن يكون هناك رد فعل من قِبَل السلطة الفلسطينية لهذا التحدي الوجودي لها، ليس بمعنى إصدار بيانات الإدانة، وإنما تغيير السياسات، وإلا فإنّ التطورات سوف تتجاوزها، خاصة وأنّ المستقبل في الضفة مفتوح على كل الاحتمالات.
(خاص "عروبة 22")