ما جرى بعد 30 يونيو/حزيران ليس استثناءً في تاريخ ثورات المصريين، ولعل أدق العبارات التي تقدّم تلخيصًا دقيقًا لما جرى في مصر على مدار القرنين الماضيين ما ذكره الدكتور غالي شكري من أنّ: "تاريخ الثورة المضادة في مصر هو تاريخ الثورة نفسها".
كل ثورة خاض غمارها الشعب المصري انتهت إلى نصف ثورة، أو ثورة منقوصة، وكثيرًا ما كانت القوى المضادة للتغيير تتمكن من الانقلاب على ما حققته الثورة والسير عكس الاتجاه الذي سعت إليه.
الانقسامات من الداخل واحدة من سوءات ثورات المصريين
من داخل كل ثورة ومن خارجها نمت وترعرعت عوامل الارتداد ضدها، وتعاظمت عناصر الانقضاض عليها.
واحدة من أنبل ثورات الشعب في مارس/آذار 1919 لم تُترك لها فرصة أن تكتمل وتحقق وعودها المجهضة، حتى أنّ حزب الوفد أكبر تجسيد تنظيمي شعبي لثورة 1919 لم يحكم أكثر من سبع سنوات ونصف السنة طيلة ثلاثين سنة.
الانقسامات من الداخل واحدة من سوءات ثورات المصريين، انقسمت الثورة العرابية من داخلها، ومن بعد شهد حزب سعد زغلول انقسامات تحوّلت إلى أقليات، وانشقت عنه شخصيات قيادية وازنة في مراحل متتابعة.
في ثورة يوليو/تموز 1952 كان طبيعيًا أن ينتهي عدم التجانس بين قياداتها التي توزعت مشاربهم بين اليمين واليسار و"الإخوان المسلمين"، إلى انفصامها إلى عهدين:
ـ عهد وعى أنّ الاستقلال الوطني يتحقق عبر شرطيه المتمثلين في التحرر، والتنمية، أي تحقيق الاستقلال السياسي والاستقلال الاقتصادي.
ـ وعهد وضع كل أوراق القرار الوطني في صناديق التبعية، ورهن القرار الاقتصادي في أيدي خبراء صندوق النقد الدولي.
قاد جمال عبد الناصر عهد الثورة، ووضع أنور السادات أسس عهود الثورة المضادة، وكلاهما من رجال ثورة يوليو، عبَّرا عن تداخل ومأساة متلازمة الثورة والثورة المضادة كأنهما ظاهرة واحدة مركّبة.
الهروب إلى "الغنائم" قبل إحراز النصر النهائي كانت تلك هي اللحظة التي قصمت ظهر الثورة
أي نظرة موضوعية ومدققة على السنوات العشر الماضية تعطينا نتيجة أولية لا يمكن إنكارها تتلخص في أننا كنا أمام إمكانية لأن تسير الأمور بشكل أفضل لو كانت قوى الثورة والتغيير أكثر خبرة وحنكة، أو تحلَّت قوى النظام القديم ببعض الصدق والقليل من النزاهة.
وهما فرضان لم يكن الواقع المتحرك والمعقد يسمح بتوافرهما، كانت قوى الثورة أقل نضجًا مما يجب، وكانت قوى الثورة المضادة أشرس مما يُتوقع.
تحركت قوى النظام القديم بذكاء وخبرة، بدأت باحتواء الثوار وانتهت بإخماد جذوة الثورة، وكانت تلك هي وقائع المأساة التي تحوّلت بالنهاية الى ملهاة محزنة.
لم تدرك قوى الثورة خصائص مرحلة الانتقال إلى نظام ديمقراطي بعد عقود طويلة من استقرار واستمرار النظام الاستبدادي الفردي.
كان الهدف المنطقي الذي يجب أن تتوجه إليه قوى التغيير وقتها أن تتوافق على أُسُس النظام الجديد.
لم يكن ممكنًا الانتقال إلى نظام ديمقراطي إلا عبر عمليتين متداخلتين ومتكاملتين تبدأ بتقليص عناصر النظام القديم ولا تنتهي إلا بتكريس عناصر النظام الجديد.
الهروب إلى "الغنائم" قبل إحراز النصر النهائي على نظام ظلّ يحتفظ بالسلطة في يديه، كانت تلك هي اللحظة التي قصمت ظهر الثورة، وانقسمت من حولها قواها، وتشتت واختلفت وتصارعت حتى سقطت كغنيمة كبرى في يد قوى النظام القديم قبل أن تبزغ شمس النظام الجديد.
يبقى أنّ الأدوار التي لعبتها جماعة "الإخوان" كانت سببًا رئيسيًا في انتكاس الثورة وإجهاضها وتسهيل عملية السطو عليها وهذا حديث يطول سرده، ويجب التوقف عنده.
الثورة رغم كبوتها مرشحة للنهوض من جديد
القوى الساعية إلى التغيير مدعوة إلى إجراء مواجهة صادقة مع النفس، ومطالبة بمراجعات جادة لما جرى، حتى لا تتحوّل الثورة إلى ذكرى ذات شجون، لا قيمة لها في الحاضر، ولا قيامة لها في المستقبل.
مراجعات الثورة بتعدد أطرافها وتباين توجهات المشاركين فيها، تحتاج بالضرورة إلى جهود جماعية، ودراسات منهجية، وورش نقاش جدية، ولا يكفي لها مقالة مهما طالت، أو دراسة مهما تعمقت، فالثورة حدث كبير، وما حققته لا يُستهان به، وهي رغم كبوتها مرشحة للنهوض من جديد.
هذه المراجعات يجب أن تنصب على معرفة ما جرى في مصر، وما جرى لها طوال العقد الماضي، ولماذا؟، ومقصد المراجعات الأساسي يتلخص في استخلاص الدروس والعبر.
السؤال المركزي في هذه المراجعات عن ثنائية الثورة والإصلاح في دولة مثل مصر بكل تعقيداتها وبتاريخها الطويل الذي يتقلّب بين ثورات ناقصة، ونجاحات بطيئة، وإنجازات مبتورة.
(خاص "عروبة 22")