ولا يمنع كـثيـرون أنفـسَهم من الذّهـاب إلى ما هـو أبـعـد من المماهـاة بين الثّـورة والعـنـف الثّـوريّ: إلى الممـاهـاة بين التّـغيـيـر والثّـورة بحسبان المعنـى الوحيـد الـدّقيـق للتّـغيـير هو الثّـورة، أي على النّـحو الذي يضيـق فيه معـنى التّـغيـيـر فلا يعـود يتّـسع لغيـر ذلك الذي مسْـلَـكُـه العـنـفُ المـاديُّ المباشـر!
هذا خـلـطٌ غيـرُ مشـروع بين مفـاهيـمَ مـتمايـزةٍ، ومماهاةٌ بين حـدودٍ لا تـشـترك في المعـنى نفسِـه. والخـلـطُ هذا ناجـم، على الأغـلـب، من الاسـتخـدام الفـوضـويّ لمفاهيـم النّـظريّـة السّياسيّـة في العمل السّـياسيّ الحـركيّ؛ حيث الخطـاب الدّعـويّ والتّـعـبـويّ السّياسيّ منـغـمِـسٌ في التّـبسيطيّـة والابتـسار وزحـزحة معنى المفهـوم النّـظريّ عن مواضعـه ودارجٌ على ذلك بانتظـام!
صُرِف معنى الإصلاح عند الثّوريّين دعاة القطيعة والعنف إلى معنًى قـدْحيّ صار معه مفهومًا ممجوجًا ومرفوضًا
والحـقّ أنّ أكـثـر من يـميـل إلى ارتكـاب هـذا النّـوع من التّـخليـط وإتيـان مثـل تلك المماهـاة هُـمْ أهـل اليسار، في بلادنا العـربيّـة كما في العالم، لِـظَـنٍّ لديهم بأنّ المعـنى الوحيـد الحصْـريّ للتّـغيـيـر وللثّـورة هو المعنـى الذي يحمـلونـه وعيًا ويعـبّـرون عنـه فعْـلًا سياسيًّا؛ أعـنـي ذاك الذي يختـصر التّـغيـيـر في الثّـورة ويُـعَـرِّف هذه بما هي عـنـفٌ ثـوريّ تمارسه "الجـمـاهيـر" أو، للـدّقّـة، طـليـعةٌ مقـاتلـةٌ فيها تـنـوب عنها؛ وليس في ذلك الظّـنّ وجْـهُ صـواب.
مـن البيّـن أنّ حصْـر معـنى التّـغيـيـر في الثّـورة، عـنـد مَـن يَـأتـون ذلك الحصْر، يَـرُدُّ إلى حرصهم على تـميـيـز أنـفسـهم من دعـاةٍ آخـريـن إلى تغـيـيـرٍ يَجـيء من بـابٍ سلـميّ أو تـدرُّجـيّ ليس فيه قَـطْـعٌ كما هي حـالُ الثّـورة. لذلك صُـرِف معـنى الإصـلاح، عـنـد الثّـوريّـيـن دعاةِ القطيـعة والعـنـف، إلى معـنًـى قـدْحـيّ صار معـه مفهـومًا - وخـيارًا في السّياسـة - ممجـوجًا مقـدوحـًا فيه ومـرفوضًا. ولم يـقـفِ الرّفـض عـنـد حـدود هذا الإصـلاح المذمـوم في خطـاب اليسار، المراهـنِ على نخبةٍ سياسيّـةٍ رشـيدة - هي في حكـم الوهْـم عـنـد دعـاة التّـغيـيـر الثّـوريّ -، وإنّـما ضَـوَى إليه (أعـني الرّفـض) كـلَّ خـيارٍ في السّياسة يتوسّـل الأساليبَ السّـلميّـةَ وتـدورُ فصولُـه داخل نطـاق المؤسّسات الرّسميّـة للـدّولـة، حتّى وإنْ بَـلَـغَ مَـبْـلَـغ التّـغيـيـر الـدّيمقراطـيّ! وكـأنّ العـنـف، من دون سواه، ماهيـةُ التّـغيـيـر والفعْـلُ السّياسيّ الوحيـد الذي تـنـتـقـل به الثّـورةُ من القـوّة إلى الفـعـل أو، قـل بلـغـة اليسار، من الإمكـان المـوضوعيّ التّاريخيّ إلى التّحـقُّـق الماديّ الواقـعيّ: أليس العـنـفُ، في عُـرْفٍ ماركسيّ شهـيـر، هـو "قـابلـة التّاريخ"؟!
حمل العصر الحديث ممكنات جديدة للتّغيير والثّورة ما كان العنفُ رئيسًا فيها ولا حتّى وسيلة
ما من شـكٍّ في أنّ التّـغيـيـر بهذا المعـنى الذي يحـتلّ فيه العـنـفُ الثّـوريّ مَـقامًا كمـثـل مَـقام المُـحَّـةِ من البَـيْـضة، كما يقـال، نمـوذجٌ معـروفٌ في التّاريخ شهِـدت عليه مجـتـمعـاتٌ عـدّة وتَـحَـقَّـق من طـريق ثـورات عـدّة. بل لقـد يمـكن أن يـقـال، من غيـر كـثـيرِ تـردُّد، إنّـه الغـالبُ على تجـارب التّـغيـيـر في التّـاريخ والشّـكـلُ الأعـلى لتـجـلّي العـنـف الاجـتماعـيّ والسّياسـيّ فيها. مع ذلك، حَـمَـل العصر الحـديث ممـكنـاتٍ جـديـدةً للتّـغيـيـر والثّـورة ما كان العـنـفُ رئيـسًا فيها ولا حتّى وسيلةً أحيانًا. لذلك، إنْ نـحـن استـثـنيـنـا ثـورات عـنيـفـة مثـل الثّـورة الفـرنسيّـة والثّـورة الرّوسيّـة، فإنّ الأعـمّ الأغلـب من بـلدان أوروبا شهدت على نـماذج أخرى مختلـفـة من التّـغيـيـر حصلت من طريق المُـواطـآت على التّـغيـيـر (بريطانيا مـثـلًا) ومن طريـق البنـاء الـدّيمقراطـيّ و، أحيانًا، حتّى من طـريق إصـلاحاتٍ للنّـظام السّـياسيّ أنجـزتْـهُ مَـلـكـيّـات عـدّة في أوروبا.
(خاص "عروبة 22")