وإذا كانت هذه المكتسبات قد رسّخت في الوعي التّاريخي الكوني صورة أوروبا "الأنوارية" التّي اكتسبت من خلالها القوّة الماديّة والتأثير وأعطت لنفسها شرعية احتلال العالم في القرون الثلاثة الماضية، فإنّ جنوحها إلى أيديولوجية اليمين المتطرف ممثّلًا في حزب الجبهة الوطنية، سيربك كل التّراث السيّاسي والفكري والقيمي الذي تراكم في أوروبا لقرون، مُعبّرًا عنه في مبادئ الجمهورية ومُرسّخًا في إعلان حقوق الإنسان والدّستور الفرنسي والتّقاليد الجمهورية الفرنسية في الحكم.
هل تناسى الفرنسيون أنّ أصل حزب الجبهة الوطنية مكوّن من الفرنسيين المناصرين لنظام فيشي المتعاون مع النّازية؟
ما بات يُحيّر المُتأمّل السياسي، وهو يحاول فهم الديناميات المعقّدة وراء دعم الفرنسيين والأوروبيين بصفة عامة لليمين المُتطرف، أنّ هذا الدعم ليس إلا فعلًا مبطّنًا أو سلوكًا غير واعٍ في احتضان أيديولوجيا معاداة السّامية التي شكّلت بالنّسبة للأوروبيين أنفسهم عقدة تاريخية منذ أواخر القرن التاسع عشر. هل تناسى الأوربيون والفرنسيون على وجه الخصوص أنّ أصل حزب الجبهة الوطنية مكوّن من قدامى المحاربين الذين خاضوا حرب الجزائر ومن الفرنسيين المناصرين لنظام فيشي المتعاون مع النّازية؟ هل تناسوا مواقف جان ماري لوبان وتصريحاته المعادية للسّامية، ممّا عرّضه لمشكلات قانونية سنة 1987؟.
إنّ تصاعد خطاب العنصرية والكراهية الذي بدأ لعقود مُتَمَحورًا حول "الهويّة الوطنية" و"مركزية الرّجل الأبيض"، لم يكن إلًا تعبيرًا عن وجه آخر لمعاداة السّامية باعتبارها أيديولوجيا تستند إلى التعصّب العرقي والميز الإثني. إنّها مفارقة عجيبة تشهدها أوروبا وهي تتأرجح ما بين أزواج مكوّنة من أطراف متناقضة: طرف تجريم معاداة السّامية وطرف التفيّؤ بظلالها ضد العرب والمسلمين بخاصة. ثم طرف حقوق الإنسان وطرف انتهاك هذه الحقوق.
السّائد في تحليل منعطف التّصويت على اليمين المتطرف في أوروبا، هو التركيز على ديناميات متداخلة تتعلّق بفشل الحكومات السّابقة في حلّ مشكلات البطالة وتراجع القدرة الشّرائية وأزمات الهجرة والأمن، والاستياء من النّظام السياسي التقليدي، وعدم الثّقة في السياسيين، والخوف من فقدان الهويّة الثقافية والوطنيّة في خضم العولمة والتغيّرات الاجتماعية السّريعة، فضلًا عن الشّعور بالتهميش والإقصاء من التمثيلية في النظام السياسي. إذا كان هذا التّحليل يتّسم بالموضوعية في حصر هذه الأسباب وترتيبها، فإنّ الرّبط بين معاداة السّامية في صورتها المتطوّرة القائمة على التّضمين والحنين إلى فكرة "نقاء الرّجل الأبيض" وبين صعود اليمين المتطرف، لم يطله لحدّ الآن التحليل السياسي والفلسفي بالمعنى الذي يقتضيه الفهم المُعمّق لسيكولوجية فعل التصويت على هذا اليمين.
الخطاب التخويفي يُعبّر عن انبعاث نزعة قومية ترى أنه لا ينبغي أن يقيم في الدّولة إلا العرق الواحد والدّم المُوَحِّد
إن خطاب التشبّث بالنّزعة الوطنيّة المغلقة وحماية السيّادة، هو في واقع الأمر دعوة صريحة إلى الحفاظ على ما يُطلق عليه الهويّة الصّلبة، بالمعنى الذي يجعل الرّجل الأبيض فوقيًا بتميّزه العرقي ومتعاليًا بديانته المسيحية. لكن الواقعية السياسية فرضت عليه تعديل خطابه "تقيّة" حتّى يكون مقبولًا ويتمكّن من توسيع قاعدته الانتخابية. لذلك تمّ الانفتاح سياسيًا على الدّيانة اليهودية واعتبارها مقرونة بالمسيحية نظرًا لقوّة اليهود ونفوذهم العالمي سياسيًا واقتصاديًا وإعلاميًا.
إنّ الخطاب التخويفي الذي يروّجه اليمين المتطرف بتحذيره أوروبا من آفة فقدان هويّتها وسلمها الأهلي بسبب الهجرة الواسعة للعرب والمسلمين، خاصة المهاجرون من شمال أفريقيا، يُعبّر في واقع الأمر عن انبعاث النّزعة القومية، بدلالة القبيلة، التي ترى أنه لا ينبغي أن يقيم في الدّولة إلا الأفراد المنتسبون إلى العرق الواحد والدّم المُوَحِّد.
(خاص "عروبة 22")