هذا الاتجاه من التفكير قد يشكل مفاجأة فيما يخص اتجاهات السياسيات الغربية إزاء إثيوبيا والتي تمتعت على مدى نصف قرن تقريبًا برعاية غربية فائقة تُرتّب عليها أدوارًا بالوكالة لعبتها أديس أبابا لصالح الغرب عمومًا في منطقة القرن الأفريقي.
هذه الرعاية الغربية لإثيوبيا ترتبت على الدعم الإسرائيلي لأديس أبابا بعد إنشاء الدولة الصهيونية مباشرة، وذلك على اعتبار أنها من دول التخوم للمنطقة العربية التي تستطيع أن تؤثر على تفاعلاتها طبقًا للاستراتيجية البريطانية الشهيرة المعروفة باسم "شد الأطراف"، أي التأثير على نقطة ما أو عاصمة ما من طرفها بهدف تحقيق حالة إضعاف مطلوبة لمحيط عربي معادٍ للدولة العبرية الناشئة.
حالة عدم إدارة التشظي القومي الإثيوبي خلال العقد الأخير كان لها تداعيات مؤثّرة على المصالح الغربية في الإقليم
وقد لعبت إثيوبيا أدورًا مهمة وربما أساسية خلال النصف قرن الماضي كشرطي حارس للمصالح الغربية التي تماهت مع الأحلام الإثيوبية في التمدد الإقليمي بمنطقتها، حيث اعتبرت الولايات المتحدة الأمريكية إثيوبيا حجر الزاوية في سياستها بأفريقيا، وحصلت على نصف المساعدات الأمريكية لأفريقيا في فترة الحرب الباردة، كما مُنحت إثيوبيا في عهد رئيس وزرائها ميلس زيناوي دعمًا سياسيًا وعسكريًا ولوجستيًا لمحاربة الجماعات المتطرفة في القرن الأفريقي خصوصًا في الصومال بعد الإهانة التي لحقت بالقوات الأمريكية هناك.
وكذلك كانت أديس أبابا نقطة ارتكاز رئيسية في تفاعلات المشكل السودانية على مدى عقود خصوصًا تلك المرتبطة بالحرب الأهلية بين شمال وجنوب السودان، كما شهدنا لها دورًا أساسيًا في التفاعلات السياسية السودانية بعد ثورة ديسمبر/كانون الأول ٢٠١٨ وخاصة فيما يتعلق بالهياكل الدستورية الانتقالية التي أسّست الشراكة المدنية العسكرية السودانية طبقًا لمتطلبات أمريكية.
إذن بعد هذه المسيرة الطويلة من العلاقات العضوية بين الغرب وإثيوبيا، ما الذي تغيّر.. ولماذا يريد الغرب إنقاذ إثيوبيا من نفسها طبقًا لمقولة الدبلوماسي الغربي؟.
عدد من التساؤلات باتت مؤثرة على صورة إثيوبيا على نحو سلبي في الغرب في عهد آبي أحمد، رئيس الوزراء، منها مدى جدارة إثيوبيا في قيادة أدوار إقليمية في ضوء حالة تشظيها القومي، وعدم قدرتها على بلورة معادلة استقرار بين شعوبها، حيث كشفت حرب التيغراي ٢٠٢٠، وما ترتب عليها من حروب داخلية تابعة من قوميات أخرى ضد مركز الدولة، عن حالة الهشاشة التي تعاني منها الدولة الإثيوبية في العلاقات القومية البينية، وهي الهشاشة التي أنتجت أيضًا ممارسة فظائع ثأرية وإنسانية بين الأطراف الإِثيوبية المتصارعة، ربما لم تكن مبررة خصوصًا من جانب الدولة.
التراجع الإثيوبي عن صيغة الفيدرالية الأثنية التي ضمنت تعايشًا سلميًا بين القوميات الإثيوبية عبر تدشين حقوق دستورية تصل إلى حد تأسيس الحكم الذاتي أو الانفصال طبقًا للمادة ٣٩، يبدو أنه المسؤول بشكل مباشر عن المشكل الداخلي الإثيوبي حاليًا حيث يحلم آبي أحمد بتأسيس اندماج وطني بين القوميات بطرق قسرية عبر حزبه الجديد الازدهار، وذلك استجابة لتأسيس حلم الإمبرطورية الإثيوبية القديمة على عهد الأمهرة، وهو توجه ضد المنطق التاريخي في عمليات الانصهار القومي بين الشعوب.
حالة عدم إدارة التشظي القومي الإثيوبي على نحو حكيم من جانب أديس أبابا خلال العقد الأخير كان لها تداعيات إقليمية مؤثّرة على المصالح الغربية في الإقليم، ذلك أنّ الامتدادات القومية بين أكثر من دولة في القرن الأفريقي كحالتي التيغراي والعفر مثلًا لها في كل من السودان والصومال وإرتيريا وكلها دولة مشاطئة للبحر الأحمر والمحيط الهندي ومؤثرة على حالة الاستقرار فيهما وهما عصب المصالح الغربية في منطقتنا.
البدائل المطروحة أمام العواصم الغربية لخلق نقطة ارتكاز جديدة لمصالحهم في شرق أفريقيا غالبًا تتجه نحو كينيا
وبطبيعة الحال بلورة إثيوبيا لموقف صراعي مع مصر في إطار سد النهضة، هو بالتأكيد محل تساؤل أيضًا بشأن إهمال أديس أبابا لحزمة محفزات تعاونية تنموية قدّمتها مصر لإثيوبيا ولم يتم الاعتداد بها على خلفية تقديرات إثيوبية تنتمي للعصر الإمبرطوري أكثر منها متفاعلة مع واقع يعيشه الناس.
البدائل المطروحة أمام العواصم الغربية لخلق نقطة ارتكاز جديدة لمصالحهم في منطقة شرق أفريقيا غالبًا تتجه حاليًا نحو كينيا التي تملك اندماجًا قوميًا واستقرارًا داخليًا بمستوى معقول، وتطورًا تنمويًا ملبيًا للاحتياجات الغربية، وعلاقات إقليمية ليس فيها مستوى عالٍ من العداء المتحقق بين إثيوبيا وجيرانها.
جملة هذه المعطيات تفسّر لنا الاستقبال الحافل الذي حظي به الرئيس الكيني وليم روتو في واشنطن قبل عدة شهور، وتفسّر لنا التوسّع في افتتاح المكاتب الإقليمية للمنظمات الدولية مؤخرًا في كينيا، خصوصًا وأنّ الأخيرة تملك نقطة جذب رقمية بامتلاكها أهم قواعد البيانات الأفريقية.
(خاص "عروبة 22")