هذه المفارقة الصارخة التي أتت بها الانتخابات البريطانية والفرنسية، تترك في النفس إضافة لمشاعر الدهشة والصدمة، رغبة مُلحّة للتأمّل والتفكير العميق في الدلالات والمعاني والأسباب التي ترقد خلف هذا التناقض الظاهر والمُربك.
باختصار، كيف نقرأ اندفاع جمهور الناخبين في بلدين ومجتمعين لهما تاريخ طويل جدًا في ممارسة آليات الديموقراطية بما يُفترض معه أنّ قيمها السامية رسخت في العقول بدرجة معقولة لا يليق معها هذا التصويت المرتبك وتلك النتائج الصادمة؟.
بلدان الغرب الأوروبية شهدت متغيّرات سياسية واقتصادية بدت وكأنها تعطّل عملية الوعي لدى الجمهور
ربما هذه السطور أضيق كثيرًا من أن تتسع لمحاولة رصد كل محتويات سلة المتغيّرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تراكمت في مجتمعات الغرب عمومًا على مدى العقود الأخيرة وأفضت إلى الحال الراهنة من الارتباك وتلك الفوضى التصويتية العارمة، لهذا فليس أمامنا سوى أخذ ملامح سريعة من المشهد الانتخابي الأوروبي الحالي، وإلقاء بعض الضوء السريع عليها لعل وعسى نفهم شيئا في صورة تبدو معقدة جدًا وغائمة تمامًا.
نبدأ بالتذكير أنّ البلدين الذين حدثت فيهما تلك المفارقة، هما من كبار أصحاب الإرث الاستعماري الأوروبي، بل هما الأكبر بلا منازع بين بلدان الغرب الاستعمارية قاطبة، تلك حقيقة لا بد من إدخالها في الحسبان قبل كل كلام، على أساس أنّ هذا الإرث يترك حمولة أخلاقية ثقيلة جدًا على الوعي العميق لجمهور مجتمعاتهما، وعلى قدرة كتلة كبيرة من هذا الجمهور على تَمثُل قيم ومبادئ الديمقراطية أثناء ممارسة آلياتها ومن ثم يعصم كل من يمارسها من اختيارات تناقض أي من هذه القيم والمبادئ، مثل اختيار أحزاب وتيارات تحمل في عقائدها وبرامجها ما يشي بالعنصرية والاستعلاء واحتقار بشر آخرين واستباحة العدوان عليهم واغتصاب حقوقهم، بل وإبادتهم على نحو ما يجري حاليًا في فلسطين.
هذا من ناحية المبدأ العام، أما في التفاصيل، فإنّ بلدان الغرب الأوروبية عمومًا ومن ضمنها بريطانيا وفرنسا، شهدت كلها فيض هائل من المتغيّرات السياسية والاقتصادية التي عصفت بمجتمعاتها على مدى السنين، كثير من هذه المتغيّرات بدت وكأنها تعطّل عملية الوعي لدى قطاعات تتسع من الجمهور بحقيقة أنّ الارتباط عضوي ووثيق بين آليات ممارسة الديمقراطية (الانتخابات) وقيمها العليا، وهذا ما أدى مع اتساع وجود المهاجرين من غير الأصول الأوروبية إلى ظاهرة البروز والحضور المتزايد لتيارات اليمين الشعبوي والعنصري على المسرح السياسي في بلدان الغرب عمومًا.
أما أبرز هذه المتغيّرات فهي أولًا، غياب جيل من النخبة السياسية "يمينًا ووسطًا ويسارًا" كان يتمتع بقدر واضح من الثقافة والخبرة، وظهور جيل جديد بدت أغلبيته تتردى في مستنقع عميق من التفاهة والحماقة والزيف إلى درجة ألغت في رؤوس قطاع كبير من الجمهور كل فرق جوهري بين سياسات وبرامج اليمين التقليدي وسياسات اليسار، حتى أنّ الكثير من أحزاب هذا الأخير بدت وكأنها سرقت برامج أحزاب اليمين وراحت تطبّقها هي بقدر من الكفاءة منخفض جدًا!.
انخرطت حكومات تُشكّلها أحزاب تسمي نفسها اشتراكية في قلب دائرة التبعية المذلّة للولايات المتحدة الأمريكية
تجلت هذه "السرقة" التي قامت بها أحزاب اليسار المزوّر بوضوح ليس فقط على صعيد البرامج الاقتصادية والاجتماعية ومحاولة تقليد اليمين واستعارة خياراته وسياساته وأهمها الاندفاع المتهور في طريق العولمة الرأسمالية المتوحشة، لكن هذا التماهي طال أيضًا السياسات الخارجية، إذ انخرطت حكومات تُشكّلها أحزاب تسمي نفسها اشتراكية في قلب دائرة التبعية المذلّة للولايات المتحدة الأمريكية، كما لم يحفل هذا النوع من الحكومات مدعية الانتماء إلى اليسار بقيمه الإنسانية الراقية، بتزويق مواقفها المخزية من قضايا شعوب تعاني ويلات الاحتلال والاستغلال والعدوان الواصل حد الإبادة، كما يحدث الآن في غزّة تحت مظلة دعم وإسناد أمريكي غير محدود، بمشاركة حكومات دول غربية يُفترض أنها "اشتراكية"، -حكومة ألمانيا- مثلًا!!.
لكن ليس معنى هذا الكلام أنّ جماعات وأحزاب اليسار الأوروبي كلها طالها هذا الفساد الأخلاقي والشذوذ الفكري المشين، وأنها جميعًا صارت في خصام حاد مع القيم والمبادئ الإنسانية، وإنما قطاع ليس قليل من هذه الأحزاب بات الآن مأزومًا، وانصرف عنها قطاع واسع من الجمهور الذي فَقد الثقة في كل النخبة السياسية، وأصبح مرتبكًا ارتباكًا شديدًا على نحو ما ظهر في نتائج الانتخابات الأوروبية الأخيرة.
(خاص "عروبة 22")