ما زالت المفاوضات غير المباشرة لوقف الحرب على غزة تراوح مكانها، رغم المحاولات العديدة التي تبذلها الأطراف الوسيطة؛ إذ أبلغت "حماس" الوسطاء باستعدادها لقبول مقترح التهدئة الأخير، وهو المقترح الذي يدعو إلى وقف إطلاق النار لمدة ستين يومًا بدايةً. بالطبع كان الردّ الإسرائيلي رافضًا لهذا الأمر.
وقد عبّر رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بوضوح عن المبادئ/ الشروط الخمسة التي تؤدي إلى وقف الحرب، وهي: إعادة جميع الأسرى، نزع كلي للسلاح في غزة، منع تصنيع الأسلحة في القطاع أو تهريبها إليه، سيطرة أمنية إسرائيلية كاملة على القطاع بما في ذلك محيطه الأمني المباشر (حزام أمني)، وتشكيل حكومة مدنية بديلة لإدارة القطاع لا تضم "حماس" ولا السلطة الفلسطينية. بمعنى آخر، تريد إسرائيل منح سلطات بلدية إدارية محدودة ومقيّدة للإدارة الفلسطينية التي ستُشكَّل للقطاع غداة الحرب.
يزداد التصعيد الإسرائيلي لإحكام السيطرة على مدينة غزة، وإفراغ شمال القطاع من السكان، وتقطيع أوصال القطاع عبر إقامة خطوط أمنية عسكرية تُعدّ بمثابة أحزمة تطويق، وتعطيل سبل التواصل الطبيعي في القطاع، بغية دفع السكان نحو جنوب القطاع: عملية تهجير داخلي تهيّئ ــ من المنظور الإسرائيلي ــ لخلق الظروف الضاغطة للتهجير خارج القطاع لاحقًا.
تترافق الحرب الإسرائيلية على غزة ــ التي ستكمل عامها الثاني بعد شهرين ــ مع حرب متصاعدة بوسائل عسكرية وأخرى مختلفة على الضفة الغربية والقدس الشرقية. ومن سمات تلك الاستراتيجية العمل لإقامة "إسرائيل الكبرى"، كما يصرّح نتنياهو بشأن "المهمة التاريخية والروحية" ووزراء اليمين الدينى المتشدّد في حكومته. وقد سبقه هؤلاء في هذا المجال عبر الدعوة إلى "إعلان تطبيق السيادة على الضفة الغربية" تحقيقًا للحلم الذي أشرنا إليه. ويقول وزير المالية سموتريتش في هذا الشأن إنه يجب تعزيز تحقيق هذا الهدف بجلب مليون مستوطن جديد إلى الضفة الغربية، وكذلك العمل على تحويل البؤر الاستيطانية إلى مستوطنات رسمية.
كما يُجري العمل أيضًا على إبعاد أبناء الضفة الغربية عن المناطق الزراعية لقطع أرزاقهم وسبل حياتهم، وتسهيل طردهم من أرضهم. كذلك يتم تثبيت الحصار الاستيطاني على القدس الشرقية لقطع التواصل الجغرافي ــ وبالتالي البشري ــ مع الضفة الغربية. وفي السياق ذاته، نقرأ بشكل شبه يومي تصريحات من مسؤولين إسرائيليين حول ضرورة الإسراع في مصادرة المزيد من الأراضي، والعمل على جذب "المليارات من الأموال" لاستثمار فيها بغية استقطاب المزيد من المستوطنين في طريق إقامة "إسرائيل الكبرى".
يهدف ذلك ــ من دون شك ــ إلى القضاء الفعلي والعملي على إمكانية إقامة الدولة الفلسطينية المنشودة في الضفة الغربية وغزة وعاصمتها القدس الشرقية؛ الهدف الذي عاد بقوة ــ بعد غياب أو تغييب طويل عن جدول القضايا الضاغطة في المنطقة ــ إلى جدول الأولويات الدبلوماسية الإقليمية والدولية، مع مؤتمر حل الدولتين برعاية سعودية ــ فرنسية مشتركة. المؤتمر الذي انعقد في نهاية شهر يوليو في الأمم المتحدة، بغية إطلاق مسار التسوية السلمية عبر خريطة طريق يُفترض أن تتبلور في الأشهر القريبة مع انطلاق أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في الشهر القادم. خريطة طريق لا بدّ أن تستفيد من دروس الماضي وعِبَره، وكذلك من مخاطر الجمود الذي يفاقم مع الوقت التعقيدات والصعوبات أمام الهدف المنشود.
وتنشط إسرائيل في إقامة حواجز على طريق حلّ الدولتين، مما يزيد من مصاعب تحقيقه. لكن، لمن يريد الاستقرار في المنطقة ــ وهو مصلحة للجميع في بناء وتعزيز التنمية الوطنية وكذلك الإقليمية الشاملة ــ فإن من أهم دروس الماضي البعيد والقريب ضرورة العمل على تسوية شاملة وعادلة، وبالتايى دائمة، لهذا الصراع. تسوية تُنهي الوسائل الداعمة لاستمراره وتغذيته وتوظيفه في صراعات الآخرين وتحت عناوين مختلفة. التسوية المنشودة تُساهم في توفير شرط أساسى للاستقرار في المنطقة؛ فهذا الصراع، كما نعيشه حاليًا، يحمل الكثير من المخاطر على جواره المباشر والأوسع، كما يشكّل ــ بطبيعته وموقعه ــ مادة أساسية لتغذية صراعات قائمة أو لخلق صراعات جديدة.
خلاصة الأمر أن تسوية حلّ الدولتين أمامها ــ بلا شك ــ الكثير من الصعوبات والعوائق. لكنها ليست بالتسوية المستحيلة إذا ما توفّرت الرؤية والإرادة لدى الأطراف الإقليمية والدولية المعنية، ووُظِّفت القدرات الضرورية في هذا السياق للتوصّل إلى هذا الحلّ الصعب جدًا ــ كما أشرنا ــ ولكنه الوحيد الذي يوفر زخمًا أساسيًا وقويًا وضروريًا لإقامة شرق أوسط جديد.
(الشروق المصرية)