وهي بذلك - أي حركات التحرر الوطني - تحظى بأشمل وأقوى حاضنة شعبية ممكنة، كما أنها تتبع أسلوب "حرب العصابات" الذي تستعصي على الجيوش النظامية مواجهته، وأخيرًا فقد يُقَيَّض لهذه الحركات أن تحصل على دعم خارجي تقدّمه إما قوى مؤمنة بعدالة قضية التحرر الوطني، كما كانت مصر في خمسينات القرن الماضي وستيناته، أو قوى دولية تستفيد من حركات التحرر الوطني في تقويض نفوذ خصومها، كما كان الحال في المرحلة ذاتها في سياق الحرب الباردة.
وتفيد الخبرة الماضية بأنّ الدول الاستعمارية عندما وصل منحنى قوة حركات التحرر الوطني إلى نقطة تنذر بالخطر على مصير العلاقة الاستعمارية قد انقسمت إلى صنفين، أولهما كانت القيادة الاستعمارية فيه تمتلك نظامًا إدراكيًا مفتوحًا ولو نسبيًا، بحيث يمكنه إدراك حقيقة أنّ الظاهرة الاستعمارية باتت تنطوي على مفارقة تاريخية، وأنّ زوالها أصبح حتميًا، ومن هنا تصرّف قادتها على نحو سلّم باستقلال المستعمرات، مع انتهاز الفرصة التاريخية التي أتاحها هذا التسليم الطوعي بأحد المعاني باستقلال المستعمرات للحصول على أكبر منافع مستقبلية ممكنة، وبالذات في المجال الاقتصادي، بحيث يصبح استقلال المستعمرات شكليًا بدرجة أو أخرى.
الضغوط تبدأ من الجيوش التي تقاتل في الميدان لأنها الأدرى بحقيقة الخسائر الفادحة والعجز عن هزيمة حركات التحرير
أما الصنف الثاني فقد اتسم فيه القادة الاستعماريون بعمى إدراكي كامل، فتصوروا أنّ العلاقة الاستعمارية أبدية، ومن ثم رفضوا تقديم التنازلات المطلوبة المترتبة على تصاعد حركات التحرير، ومع استمرار هذا التصاعد نتيجة عوامل قوة حركات التحرير كما سبقت الإشارة فإنّ ضغوطًا داخلية تتولد من أولئك الذين يدركون فداحة الخسائر المترتبة على العجز عن القضاء على تلك الحركات، والأفق المسدود أمام سياسات الإصرار على التمسك بالعلاقة الاستعمارية، ورفض التسليم بمطلب الاستقلال الذي ترفعه حركات التحرر، ولا ترضى عنه بديلا.
واللافت أنّ خبرة التحرر الوطني تفيد بأنّ هذه الضغوط تبدأ من الجيوش التي تقاتل في الميدان، لأنها الأدرى بحقيقة ما يجري، وخلاصته الخسائر الفادحة والعجز عن هزيمة حركات التحرير، ويرتبط النموذج الواضح في هذا الصدد بحالة الاستعمار البرتغالي في أفريقيا، حيث أصم النظام الفاشي في البرتغال آنذاك آذانه وأغلق عينيه عن أي تطورات تجري في ساحة القتال، فلم يكن من الجيش إلا أن قام بانقلاب أبريل ١٩٧٤ الذي وجد تجاوبًا شعبيًا هائلًا، وتحوّل إلى ثورة أسقطت النظام الفاشي، وأسست لنظام ديموقراطي، وتعهدت بإنهاء الحروب الاستعمارية، وبالفعل لم ينتهِ عام ١٩٧٥ إلا وكانت كل المستعمرات البرتغالية في أفريقيا بالإضافة إلى تيمور الشرقية قد حصلت على استقلالها.
تعددت مؤشرات الانقسام في إسرائيل بين المؤسسة العسكرية والحكومة حول قضايا كلية وجوهرية
وتشهد إسرائيل بوضوح منذ شهور مؤشرات انقسام بين المؤسسة العسكرية والحكومة، وقد تعددت هذه المؤشرات ما بين تلك التي تعلقت بقضايا كلية وجوهرية في الصراع الدائر بين إسرائيل والمقاومة في غزّة، كانتقاد وزير الدفاع غياب الأفق السياسي للحرب مما يهدد بهدر الإنجازات العسكرية، أو تصريح المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي بأنّ "حماس" فكرة لا يمكن القضاء عليها، بينما يصر نتنياهو على أنّ الحرب لا يمكن أن تنتهي دون تحقيق ذلك الهدف، أو تأييد المؤسستين العسكرية والأمنية لصفقة التبادل فيما يفعل نتنياهو كل ما بوسعه لتفاديها، أو الخلاف العلني بين نتنياهو ووزير دفاعه حول إدارة الخلاف مع الإدارة الأمريكية، وما إذا كان يجب أن يتم في الغرف المغلقة كما يريد جالانت، أو أنه يجب أن يخرج للعلن إذا لم يجد حوار الغرف المغلقة نفعًا كما يفعل نتنياهو.
ومن ناحية ثانية، هناك المؤشرات التي مست قضايا جزئية، كوقف القتال لساعات من قِبَل الجيش الإسرائيلي، والإفراج عن بعض الأسرى الفلسطينيين، وتبادل الاتهامات في الحالتين على نحو لا يُصَدَّق بشأن المسؤولية عن هذه القرارات التي أثارت جدلًا في الداخل الإسرائيلي، وصولًا إلى ما بدأ يتردد علنًا من أنّ نتنياهو يفكّر جديًا في تغيير وزير دفاعه.. والسؤال هل يغري هذا بتطبيق الخبرة الماضية لبعض حركات التحرر الوطني على الحالة الإسرائيلية؟.. أناقش هذه الفكرة في مقالة قادمة بإذن الله.
(خاص "عروبة 22")