كان موت حافظ الأسد عام 2000 فرصة المجلس لإثبات حضوره واستعادة مكانته من مدخل دوره في انتقال السلطة حسب نصوص الدستور السوري. وبدل القيام بما ينبغي ويفترض، فقد استجاب إلى ضغوطات أركان النظام، وأجرى في ربع ساعة تغييرًا، سيكون له تأثير بعيد المدى على سوريا وعلى محيطها الإقليمي والدولي، بحيث أقر تعديلًا دستوريًا، يخفض سن المرشح للرئاسة ليناسب عمر بشار الأسد معلنًا نهاية التجربة المحدودة والمتواضعة للمجلس، وبداية مرحلة جديدة، تساير وتدعم سياسات النظام، وتعزز إحكام قبضته على السوريين الذين بادروا الى حراك ثقافي وسياسي ومدني من أجل الإصلاح.
وكان أبرز تعبيرات التحوّل في مسيرة مجلس الشعب رفع الحصانة البرلمانية أوائل عام 2001 عن النائبين محمد مأمون الحمصي ورياض سيف اللذين رفعا الصوت المطالب بالإصلاح، وشاركا في الحراك من أجل مكافحة الفساد ومن أجل التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وسعيًا نحو توسيع هامش الحريات وبدء مسار ديمقراطي، مما أعطى النظام ترخيصًا نيابيًا باعتقال النائبين ومحاكمتهما بصورة تعسفية.
مجلس الشعب كان المكان الذي أطلق فيه الأسد حربه على السوريين في خطاب وصفهم بـ"الجراثيم"
وطوال العقد الأول من حكم بشار الأسد 2000-2010، اتبع المجلس سياسة دعم ومساندة النظام في المستويين الداخلي والخارجي، وتجاهل الآثار الكارثية، التي تركتها السياسات في قضايا خارجية بينها غزو العراق عام 2003، وتدخلات النظام فيها، ودور النظام في لبنان وخاصة بعد انتفاضة اللبنانيين عام 2005 ردًا على اغتيال الرئيس رفيق الحريري ونخبة من شخصيات لبنانية، وأثره في العلاقات السورية - اللبنانية، وتوازى مع ما سبق في المستوى الداخلي، تواطؤ المجلس مع النظام وأجهزته في الهجوم على الحراك الإصلاحي، ليس فقط في رفض الاستجابة للمطالب، بل في ملاحقة الناشطين وجماعتهم السياسية والاجتماعية، واعتقال نخب منهم في موجات متتابعة، وإصدار أحكام تعسفية ضدهم، كما تواطأ المجلس مع السياسة الحكومية في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، التي صاحبها فساد ونهب غير مسبوقين، كان من نتائجها بلوغ الفقر في سوريا وفق تقارير أممية مستوى 2 من 3، وهو ما أدى في جملة عوامل إلى ثورة السوريين عام 2011.
وبدا من الطبيعي، أن يستنهض النظام كل عناصر قوته في مواجهة الثورة، والأمر لم يقتصر على الأجهزة الأمنية العسكرية، بل المؤسسات التابعة وفيها مجلس الشعب الذي كان المكان الذي أطلق فيه الأسد حربه على السوريين في خطاب وصفهم بـ"الجراثيم"، فصفق المجلس تأييدًا، وهو النهج الذي سار عليه المجلس على مدار السنوات الماضية داعمًا سياسات الحرب التي طالت أغلب السوريين، قتلًا وجرحًا واعتقالًا وتهجيرًا، ورافقها تدمير مدن وقرى وممتلكات، ودمار عام سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي، وتسليم البلاد لقوى خارجية، تشمل روسيا وإيران التي جلبت معها مليشياتها من عدة بلدان للقضاء على الثورة وإعادة السوريين إلى حظيرة النظام.
النواة الأمنية العسكرية في القصر الجمهوري هي التي اختارت أغلب من وصلوا إلى رئاسة مجلس الشعب ومكتبه
لم يكن بمقدور مجلس الشعب القيام بما سبق دون تغييرات جوهرية في علاقاته وفي بنيته. ففي الأولى تحوّل المجلس إلى تابع للنظام، يرتبط مع النواة الأمنية العسكرية في القصر الجمهوري، وهي التي اختارت أغلب من وصلوا إلى رئاسة المجلس ومكتبه في الدورات الأخيرة. أما في موضوع تغييرات البنية الداخلية، فقد فتح المجلس باب العضوية أمام شبيحة وقادة عصابات مسلّحة ممن ساهموا في الحرب على السوريين، كان بينهم على سبيل المثال عمار بديع الأسد قائد إحدى المليشيات في اللاذقية، وحسام قاطرجي قائد مليشيات قاطرجي بحلب، واتسع حضور الفاسدين ليصل إلى عشرات بينهم قادة منظمات شعبية ومهنية من رئيس اتحاد العمال ونقيب المهندسين ونقيب الفنانين، ويكفي القول إنّ قيادة حزب البعث أحالت 19 من أعضاء المجلس البعثيين في دورته المنتهية إلى التحقيق، فيما كشفت مصادر برلمانية، أنّ قائمة المرشحين لانتخابات المجلس الأخيرة، ضمت عشرات من المرتكبين والفاسدين.
ويقدّم ما سبق أمثلة سوء عن الأشخاص في المجلس، تضاف إلى سوء التجربة في جوانب عامة بينها أنّ عضوية المجلس تقتصر على المقيمين في مناطق سيطرة النظام، وهم يمثّلون أقلية من السوريين الذين نصفهم من اللاجئين والمقيمين في الشتات، ونحو 7 ملايين في مناطق سوريا الخارجة عن سيطرة النظام، يضاف إليهم أنّ جزءًا من الجنوب السوري في السويداء ودرعا رفض المشاركة في الانتخابات.
تجربة مجلس الشعب صارت ميدانًا يسرح فيه الشبيحة وقادة العصابات المسلّحة والفاسدون
وفي ملامح سوء تجربة المجلس العامة أمثلة أخرى، بينها إصرار النظام على أكثرية بعثية من المرشحين ومثلهم من الفائزين في عضوية المجلس، الأمر الذي لا يعني سوء الظن بالبعثيين وحلفائهم من ممثلي أحزاب الجبهة، بل بالآخرين من الساعين لعضوية المجلس ممن أثبتت التجارب أنهم لا يتأخرون في طلب الرضا من حزب النظام وفي الوقوف إلى جانبه وتأييد مواقفه.
خلاصة القول في "الديمقراطية الشعبية" وتجلياتها في مجلس الشعب والدستور والرئاسة المزمنة، أنها كانت تجربة كارثية على السوريين، ولا سيما في تجربة مجلس الشعب، ولأن كانت أضرارها أقل في عهد الأسد المؤسّس 1970-2000، لأنها كانت بمثابة ديكورات تزيّن نظام الاستبداد والفساد والنهب، لكنها صارت تاليًا في عهد الوريث أداة دعم جرائم النظام بالسكوت وبالتأييد، وصارت ميدانًا يسرح فيه الشبيحة وقادة العصابات المسلّحة والفاسدون، وقد فشلت في كل الأحوال، أن تمنح النظام شرعية لأنها في ذاتها لم تكن تجربة شرعية أساسًا.
(خاص "عروبة 22")