بصمات

"التّحديد والسّيطرة" في عمليّة الوحدة

إذا استعـرنا بعض المفاهيـم الماركسيّـة - في تـأويـلـها الفلـسفـيّ الألتـوسيـريّ - مثـل مفهوميْ التّحديد Détermination والسّـيطرة Domination، المستخـدَميْن في تحليل البنية الاجتماعيّـة وعلاقات تَـمَفْـصُل مستوياتها الثّـلاثة: الاقتصاديّ، السّياسيّ، الإيـديولوجيّ، سنضع تحت تصرّفنا مفتاحيْـن مفهوميّـين غـنيّـيـن لفـكّ الاشتباك بين نظرتين متقابلتين إلى مسألة الوحدة العربيّة تتـبادلان السّيادة والنّـقـد في الفكر القوميّ العربيّ. 

تقطع النظرية الأولى منهما بأن لا سبيل أمام العرب إلى أيّ شكلٍ من أشكال التّوحيد القوميّ إلّا من طريق تبلوُر إرادةٍ سياسيّة ومشروع سياسيّ يفرض الوحدة، ويدير فصولها، ويسخّر سائر الموارد لها. أمّا الثّانـيّة فـتـشدِّد على القول إنّ الاقـتصاديَّ، لا السّياسيّ، هو المدخل إلى التّوحيد لأنّه وحده الذي يعبّـد الطّريق لفعل التّوحيد ويهيّئ له الأسباب والبنى التّحـتـيّـة.

تبدو الواحدةُ منهما مقابلًا ضـدِّيًّا للأخرى، وخاصّة حينما تتبادلان النّقد إلى حدودٍ تشارِف التّلاغي (=الإلغاء المتبادَل).

تأخذ الأولى على الثّانية نظرتها الاقـتصادويّـة إلى وحدةٍ هي عندها، بالتّعريف، سياسيّة ليس الاقـتصاد إلًا واحدًا من أشكالها وواجهاتها ووسائل تحقيقها. بل هي لا تمنع نفسَها من التّـنبيه إلى أنّ مسارات الشّراكة، والاعتماد المتبادَل، والاتّحاد الجمركيّ والنّـقديّ، والمشروعات الاقـتصاديّة المشتركة، وإنْ هي خيارٌ محمودٌ يَحُـدُّ من وطأة التّجـزئة والانكـفاء، ليست ضمانةً كافية للانتقال منها إلى تحقيق الوحدة.

من أَظْهر عوامل إخفاق مشاريع الوحدة بناؤُها على أساس فوقيّ يفتقر فيه الرّأسُ إلى القوائم والبنيانُ إلى الدّعامات

وتأخذ الثّانية على الأولى منزعها السّياسويّ المتضخّم الذي يمنعها من رؤية ممكناتٍ أخرى للتّوحيد أَدْعى إلى التّرغيب فيه، لا التّـنفـير منه. وهي، بالمثل، لا تمنع نفسَها من الذّهاب إلى الاعـتـقاد بأنّ واحدًا من أَظْـهـر العوامل والأسباب التي قادت مشاريع الوحـدة إلى الإخفاق بناؤُها على أساسٍ سياسيّ فوقـيّ يفـتـقـر فيه الرّأسُ إلى الأقـدام والقوائم، والبنيانُ إلى الدّعامات والمداميك: أي إلى الاقتصاد.

الفكرتان تيناك اصطرعتا في نطاق الفكر القوميّ العربيّ، لأمد طويل، واحتازت كلُّ واحدة منهما الحجّـة التي تسوِّغها وإنْ كانتِ الفكـرةُ السّياسيّـةُ عن الوحدة هي الأغلبُ والأعلى كعبًا، من دون أن يعنـيَ ذلك - حُكـمًا -  أنّـها الأكثـرُ وجاهـةً أو أنّ الأخرى (الفكرة الاقتصاديّـة) دونها حجّـةً وحُجِّـيّـة. بل لعلّ الأخيرةَ اليوم - بل منذ عـقود - أبعدُ جاذبيّـةً من الأولى بالنّـظر إلى واقعـتيـن:

أولاهـما أنّ الفرضيّة السّياسيّة الوحدويّـة جُرِّبت (تجربة الوحدة المصريّة - السّوريّة) من غير أن يُـقَـيَّض لها البقاء طويلًا، فيما تـتمتّـع الفرضيّةُ الاقتصاديّة بامتياز الوجاهة النّظريّـة التي لم تنـقُضْها تجربةُ اختبارٍ ماديّ بعد.

وثانيهـما أنّ مبعث الجاذبيّـة في الفرضيّـة الاقـتصاديّة النّجاح الباهر الذي لقِـيَـهُ تجريبُـها في النّطاق الأوروبـيّ: منذ السّوق الأوروبيّـة المشتركة والمجموعة الأوروبيّـة إلى "الاتّحاد الأوروبيّ"، وما يلقاهُ النّموذج الأوروبيُّ ذاك من استقبالٍ طيّـب لدى أممٍ عـدّة في العالم ومن نخبها الوحدويّـة ومنها النّخب الوحدويّـة العربيّـة.

لا يجْحد أحدٌ مركزيّة العامل الاقتصاديّ في وحدة الأمم على الرّغم من الجوهر السّياسيّ لتلك الوحدة

من النّافـل القول إنّ الوحدة القوميّـة - أيّ وحدة قوميّـة - بطبيعتها وحدة سياسيّة، أمّا المداخل إليها والاستراتيجيّـات فمختلفة؛ فقد تكون اقتصاديّـة وقد تكون سياسيّـة أو أمنـيّـة وما شاكـل. وليس يمكن القطع، دائمًا، في أيّـها أوفر حظًّا لاتّصال النّجاح أو الفشل لهذا المدخل أو ذاك بظروف البلدان التي تدعوها الحاجة إلى وحدة قوميّـة، وللاختلاف بين القوى والدّول في تحديد معنى المصلحة: ماديّـة اقتصاديّـة مباشرة أو سياسيّة استراتيجيّـة بعيدة الأمد. مع ذلك، لا يجْحد أحدٌ حقيقة مركزيّـة العامل الاقتصاديّ في وحدة الأمم على الرّغم من الجوهر السّياسيّ لتلك الوحدة. وهذا ما يعيدنا إلى المفهوميْن الماركسيّيْن (اللّذيْن ألَحّ عليهما ألتوسير وپـولانتزاس طويلًا): التّحديد والسّيطرة، ومحاولةِ إعمالهما في النّظر إلى أدوار عوامل التّوحيد المختلفة.

وعلى ذلك يسعنا أن نقول إنّ العامل المحـدِّد - لأيّ وحـدةٍ قوميّـة - هو العامل الاقتصاديّ، لكنّ العامل المسيطر، الذي إليه تعود السّيادة في مجرى تلك الوحدة، هو العامل السّـياسيّ. ولكن، من قال إنّ فعْـل السّـيطرة فعْـلٌ ممكـنٌ من دون أثـرٍ من العامل المحـدِّد؟.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن