خطت المحكمة، التي تُعتبر أرفع جهة قضائية وإفتائية في العالم، مسافة تقدمية كبيرة نحو تأكيد الحقوق الكاملة للشعب الفلسطيني، منطلقة من قرار أصدرته عام 2004 بعدم مشروعية إنشاء الجدار العازل، إلى آفاق أرحب، مستغلةً درجة شمول وعمومية غير مسبوقة في الأسئلة المقدمة لها من الجمعية العامة للأمم المتحدة، فاختارت أن تسلك نهجًا تحليليًا لتعريف الأراضي الفلسطينية على أُسس تاريخية تمتد إلى ما قبل نكبة 1948 وطبيعة الاحتلال الإسرائيلي وتواجده غير المشروع، والممارسات غير المبررة مثل التهجير القسري والاستيطان والفصل العنصري، وغيرها من مسائل لم يسبق للقضاء الدولي التعرّض لها فيما يخص القضية الفلسطينية.
ولم تكتفِ المحكمة بذلك منتهية إلى عدم قانونية التواجد الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية وضرورة إنهائه في أقرب وقت، مؤكدةً حق الشعب الأصلي في تقرير مصيره، بل ذهبت لأبعد من ذلك بنسف مجموعة من الأُسُس العنصرية للكيان الصهيوني، على رأسها الاستيطان الذي سبق وربطت المحكمة بينه وبين إنشاء الجدار العازل منتهيةً في حيثيات فتواها لعام 2004 أنّ المستوطنات مخالفة للقانون الدولي، لتعود المحكمة بعد عشرين عامًا لتدعو بصراحة إلى وقف جميع أعمال الاستيطان الجديدة وإجلاء جميع المستوطنين الحاليين من الأراضي المحتلة.
وتوسّعت المحكمة أيضًا في تناول حق الشعب الفلسطيني في التعويض، تأسيسًا على العديد من السوابق القضائية والإفتائية التي تؤكد حق الطرف المجني عليه أن تُجبر أضراره بصور مختلفة، وكذلك استنادًا إلى ما نصت عليه فتوى عام 2004 بوجوب تعويض الفلسطينيين الذين فقدوا أراضيهم وحقولهم لإنشاء الجدار الباطل. فطالبت المحكمة إسرائيل بأداء التعويض العادل للأشخاص الطبيعيين والاعتباريين الذين عانوا من سياسات الاحتلال المختلفة.
وحتى لا تغرق فكرة "جبر الضرر" بين أمواج جدل عقيم حول استقرار الأوضاع وزعزعتها، كتب رئيس المحكمة القاضي اللبناني نواف سلام في تقريره الإيضاحي الخاص أنّ "الهدف النهائي يجب أن يكون إزالة الانتهاكات في أقرب وقت ممكن"، مشيرًا إلى ضرورة إلزام المجتمع الدولي لإسرائيل بـ"الجبر الكامل" ورد الحقوق والتعويض، بالقضاء قدر الإمكان على "جميع عواقب العمل غير القانوني وإعادة الوضع الذي كان يمكن أن يوجد في جميع الاحتمالات، إذا لم تُرتكب الأفعال غير المشروعة".
ثم قطعت المحكمة شوطًا إضافيًا نحو الدور المنوط أداؤه بالمجتمع الدولي، باعتبار أنّ طلب الفتوى مقدّم من الجمعية العامة للأمم المتحدة، أي أنّ المحكمة لا تفصل في نزاع ثنائي يخص طرفيه فقط. فطالبت جميع الدول والمنظمات الدولية بعدم الاعتراف بالتواجد الإسرائيلي غير المشروع في الأراضي الفلسطينية وآثاره، وبعدم تقديم الدعم له، وبوجوب عمل الجمعية العامة ومجلس الأمن في مسارات سريعة لإنهاء الاحتلال.
ردت المحكمة بذلك ضمنيًا على اتهامات تخويفية وُجهت إليها عبر وسائل إعلام غربية ودوائر التأثير الصهيوني، وحتى من داخلها عبر القاضية الأوغندية جوليا سيبوتيندي، بزعم أنّ تدخلها في القضية الفلسطينية يضر بمسار المفاوضات المزعوم ويقلل فرص تحقيق "حل الدولتين"، وكأن هذا المسار لن ينجح إلا على جثة القانون الإنساني الدولي.
فجاءت حيثيات المحكمة لترسّخ ضرورة أن تكون "العدالة" حجر الزاوية في المفاوضات والشواغل الأمنية والسياسية، وحملت عبارات القضاة انحيازا واضحًا لضرورة إنهاء معاناة الشعب الفلسطيني بأن تكون المفاوضات القادمة – حال إحيائها - ترجمة أمينة لفحوى فتواهم القانونية.
تعكس التفاصيل السابقة كافة "اقتناعًا عميقًا" –على حد وصف نواف سلام- بضرورة "وضع الأُسُس لحل عادل ودائم للصراع" وهو ما يؤكد تعرض المساعي الصهيونية، سياسيًا وقانونيًا ودبلوماسيًا، لهزيمة كبرى في هذا المحفل الدولي، يمكن تحليلها في سياق تاريخي وآنيّ من خلال العبارات الواضحة في الحيثيات عن الانتهاكات المستمرة في غزّة والضفة الغربية والقدس الشرقية، بسلسلة فشلت كل القرارات الأممية في وقفها.
فعلى سبيل المثال؛ لا يمكن الزعم بأنّ هناك صلة مباشرة بين دعوى اتهام إسرائيل بالإبادة الجماعية في غزّة وبين طلب الفتوى عن آثار الاحتلال، ونوهت المحكمة صراحة إلى عدم ارتباطهما، لكن التقاطعات بينهما فرضت نفسها على عقول وضمائر القضاة.
نستطيع أن نلمح ذلك في العبارات التي تضمنها القرار الاستشاري عن غزّة، وكيف أنّ إسرائيل "ظلت مسيطرة على العديد من العناصر الأساسية للسلطة في القطاع رغم انسحابها منه عام 2005"، مشيرةً إلى أنّ صور الاحتلال "تزيد منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول إلى حد استمرار السيطرة الفعلية على القطاع".
ومن جانب آخر يصعب تخيّل أن يقف المجتمع الدولي مكتوف الأيدي أمام كل تلك الانتهاكات الموثّقة والمدعومة بقرار الذراع القضائية للأمم المتحدة، تاركًا قرارها الاستشاري، وقراراتها ذات التدابير المؤقتة في دعوى الإبادة الجماعية، في طريق غير معبّد مليء بالعراقيل وينتهي بسياج حديدي يفرضه الحق المطلق للدول دائمة العضوية في مجلس الأمن وعلى رأسها الولايات المتحدة لاستخدام حق النقض "الفيتو" للتصدي لأي قرار من الجمعية العامة أو مشروع قرار وافقت عليه أغلبية أعضاء المجلس.
إنّ التأمل في وضع الشرعية الدولية من هذه الزاوية قد يدفع إلى الكُفر بالقانون الدولي وأهميته، ليسرع البعض إلى الحكم على مسار التقاضي بأنه شكلي وعدمي، إذ يفشل دائمًا في إعادة الحقوق لأصحابها، ولأنه مولود من رحم نظام مصمَّم أساسًا لتكريس التحكّم بالقوة في مصائر الأمم المستضعفة.
وهذه الرؤية التشاؤمية يجب أن تستنهض الأفكار والهمم لثورة طويلة الأمد على النصوص الجائرة في المواثيق الدولية، وفي الوقت نفسه لا ينبغي أن تنال من أهمية السعي لجذب المزيد من الزخم في المحافل الدبلوماسية والقانونية واستثمار المكاسب الصغيرة في بناء رصيد تراكمي يكثّف الضغوط على القوى العظمى عبر العقود وبتتابع الأجيال التي قد تصبح أكثر وعيًا لضرورة إنهاء تجربة الكيان الصهيوني لما يمثّله من خطر داهم على القيم الإنسانية والسلام العالمي.
(خاص "عروبة 22")