وجهات نظر

مغزى 23 يوليو في التاريخ المصري

تكتسب الأمم حريتها أحيانًا بحكمة التجربة التاريخية وعبر تطوّر اجتماعي طويل كما كان الأمر في بريطانيا منذ زمن الماجناكارتا. وأحيانًا أخرى عبر ثورة تحررية عاصفة تمارس القطيعة مع الموروث السلطوي كما يلهمنا النموذج الفرنسي. أما مصر، المولودة الأولى من رحم التاريخ، فظلت طوال التاريخ خارج رحم الحرية، عاجزة عن تحقيق القطيعة مع الموروث السلطوي العتيق.

مغزى 23 يوليو في التاريخ المصري

لقد ظل المجتمع المصري حتى قلب القرن العشرين يراوح حول نمط الإنتاج الزراعي ووسائل إنتاجه الموروثة عن العصر الفرعوني "الطنبور والساقية" عاجزًا عن تشكيل كتلة تاريخية حديثة ذات حضور سياسي، ورؤية ثقافية، وأنماط تنظيمية تميّزه وتكفل له نوعًا من الاستمرارية. ولهذا انتكس مشروع التحديث العلوي، برحيل الباشا محمد علي، وفقد المجتمع جل مكاسبه في عهد الخديوي عباس الأول، بعودة نظام الالتزام في الأرض الزراعية والذي جعل الفلاح المصري عبدًا للأرض يشبه "القُن" الأوروبي في الإقطاع الفرنسي النموذجي. وجعل من الملتزم وسيطًا بين الإقطاعي الكبير في المدينة والفلاحين في الريف، على منوال "الفصل الإقطاعي" في أوروبا، الذي كان يتوسط بين النبلاء في الدوقيات الكبيرة والفلاح في الضيعات الريفية. كما تم النكوص عن مساواة المصريين في الترقية كضباط داخل الجيش بعد أن منحهم محمد علي هذا الحق.

في الحقبة الليبرالية ولدت حركة استنارة مصرية لكن الضعف السياسي في ظل الاحتلال البريطاني جعل أفقها مسدودًا

أما عصر إسماعيل فشهد بناء القاهرة الحديثة، ولكن على أرضية مجتمعية رعوية. لقد أقام مجلس شورى للنواب وكان ذلك أمرًا رائدًا لو صاحبه تحديث اجتماعي واسع. كما أقام دار أوبرا تستقبل وتعرض فنونًا موسيقية وألوانًا من الغناء، ولكن لم يكن في مصر من يستطيع تذوّقها ناهيك عن أن ينتجها سوى الأجانب ونخبة الإقطاع الرعوي، أما الأخطر من ذلك فكونه بناها احتفالًا بافتتاح قناة السويس المنهوبة، وعلى شرف الإمبراطورة الفرنسية ممثلة الدولة الناهبة، وموّلها بقروض أجنبية عجزت الحكومة عن سدادها فصارت ذريعة لاحتلال مصر.

في ركاب ثورة 1919 ودستور 1923 والحقبة الليبرالية ولدت حركة استنارة مصرية راوح رموزها بين علمويين كإسماعيل مظهر وشبلي شميل وسلامة موسى، وليبراليين كالعقاد ومحمد حسين هيكل وطه حسين وأحمد لطفي السيد، حاولوا بشكل جدي إحداث قطيعة ثقافية مع الماضي الذي ساده التقليد وهيمن عليه النقل، ولكن الضعف السياسي في ظل الاحتلال البريطاني جعل أفقها مسدودًا، واضطرها إلى اتخاذ طابع فوقي فلم تمس الجسد الاجتماعي الذي ظل رعويًا عند القاعدة، فكان الفلاحون يُضربون بالسياط داخل الوسايا الإقطاعية، قبل أن يجرى حشدهم من عمد ومشايخ القرى كي يبصموا على رموز المرشحين في الانتخابات البرلمانية، لأنهم غير قادرين على قراءة أسمائهم.

ورغم أنهم كانوا يصوتون لصالح "الوفد" فإنه لم يحكم سوى سبع سنوات وبضعة أشهر طوال ثلاثة عقود، بفعل ضغوط القصر والاحتلال التي أحالته إلى حزب محافظ رغم بدايته الثورية، فلم يتحرك خطوة واحدة على طريق الإصلاح الزراعي رغم وجود تصورات أوليه لتحديد الملكية بألف فدان لحل ما أُسمي آنذاك بـ"المشكلة الاجتماعية". بل إنّ مشروعًا متواضعًا لمكافحة الحفاء في الريف اعتبر مشروعًا قوميًا استمر طرحه على البرلمان لنحو العقد دون تنفيذ في النهاية لعدم الحماسة إليه من طبقة سياسية متعالية رغم استنارتها، كان من بينها من يسب الذات الملكية بشجاعة فائقة دفاعًا عن الدستور، ومن يرفض مفهوم الخلافة دفاعًا عن الدولة المدنية، لكنها لم تمتلك شجاعة المطالبة بالإصلاح الاجتماعي والاقتصادي.

كرّس عبد الناصر حياته لصوغ طبقة وسطى من فقراء مصر لكنه من ناحية أخرى سحق النخبة المدنية

وهنا بالتحديد يكمن السر الكبير في تناقض زاوية النظر إلى جمال عبد الناصر "عظيم المجد والأخطاء"، البطل الأسطوري والرئيس المهزوم، فمن ناحية كرّس الرجل حياته لصوغ كتلة حديثة وطبقة وسطى عريضة من فقراء مصر، الذين أحبهم بعمق ومنحهم ثقته، فبادلوه الحب والثقة، ووقفوا خلف ظهره في لحظة الهزيمة كي لا ينكسر كما بكوه بحرقة عند الرحيل كأب عظيم في لحظة لا يمكن لأحد أن يمنع الحقيقة من الإعلان عن نفسها. لكنه، من ناحية أخرى، سحق النخبة المدنية كلها بذريعة عجز الحقبة الليبرالية وانسداد أفقها الاجتماعي. وبدلًا من أن يحل بديلًا عن المندوب السامي البريطاني، والملك فاروق؛ تحقيقًا لمبدأ الاستقلال وتكريسًا لقيم الجمهورية، وأن يعتبر نفسه امتدادًا لتيار الحركة الوطنية المتدفق من أحمد عرابي وثورته الرائدة، إلى سعد زغلول وثورة الليبرالية، تصوّر نفسه وثورة يوليو/تموز نسخًا لكل مراحل وتيارات الحركة الوطنية، وهنا تساوقت عملية بناء طبقة وسطى واسعة، مع عملية حصار النخبة المدنية، ولو استمرت الأخيرة مع نمو الأولى، لتلاقت أطياف الوطنية المصرية، على أرضية التحديث والديمقراطية، ولكان لمصر في التاريخ المعاصر شأن آخر.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن