لقد زاوج الفكر العربي الحديث وحتى المعاصر في أغلبه بين مضامين ثلاثة مفاهيم، وهي النهضة والتنوير والإصلاح الديني، وحاول مماثلتها وقياسها وحتى إسقاطها دون إدراك للسياق التاريخي الذي تشكلت فيه وآليات تكوّنها في الغرب، ومن هنا ندرك التباين والخلط السائد عند من تصدى بالبحث والدراسة للاتجاهات الفكرية التي عرفتها المنطقة العربية أوائل القرن التاسع عشر وانتشرت إلى الربع الأول من القرن العشرين.
ففي حين يوجد شبه إجماع على اعتبار تلك المرحلة قد مثّلت نهضة فكرية تشكّل ضمنها الفكر القومي والسياسي العربي الحديث، يعتبرها البعض الآخر مجالات لحركة تنويرية شبيهة بعصر التنوير، بينما يراها آخر مجرد حركة إحياء ثقافي أو نهضة ذات صبغة لغوية أدبية. ويُحيلنا التعارض والتناقض في استخدام مصطلح النهضة إلى ضرورة تحديد خصائصه واختلافه مع مصطلح التنوير ومن ثم البحث في تحديد المصطلح عربيًا وفي الفضاء الأوروبي وسياقاته التاريخية والمعرفية.
تبلور عصر النهضة مع بروز الحركة الإنسانية التي أكدت قدرة الإنسان على الإبداع وكانت قاعدة فكر الأنوار الإيمان بالعقل
يُستخدم مصطلح النهضة للتعبير عن المرحلة التاريخية بدايةً من القرن 19 وهي المرحلة التي تميّزت ببروز اتجاهات فكرية في منطقة المشرق العربي بأسئلتها المعرفية والسياسية واللغوية، وإن كنا نلاحظ غياب تواتر هذا المصطلح في أدبيات تلك الفترة وعدم تداوله واستخدامه من قبل المفكّرين والكتّاب في الوقت التي ترد تعبيرات أخرى كإصلاح ويقظة.
أمّا النهضة في سياقها الأوروبي فكانت من المفردات الأليفة في الأدبيات الأوروبية والمسيحية تحديدًا، غير أنّها لم تكتسب دلالاتها إلّا سنة 1860 وذلك حين أصدر المؤرّخ والمفكّر السويسري ياكوب بوركهارت كتابه "حضارة النهضة في إيطاليا" وشاع هذا المصطلح واتسع مفهومه فصار يشير إلى عصر كامل من التاريخ الأوروبي يبدأ من النصف الثاني من القرن 14 ويمتد إلى أواخر القرن 16 وذلك تمييزًا له عن العصر الذي سبقه أي العصر الوسيط.
مثّل عصر النهضة هذا اتجاهًا جديدًا في الفكر والتفكير والتجأ رواد هذا الاتجاه إلى التراث الأوروبي القديم الوثني الإغريقي والروماني، كما عملوا على بعثه وإحيائه وتبلور مع بروز الحركة الإنسانية (حركة أدبية وفكرية وفنيّة) التي أكدت على قدرة الإنسان على الخلق والإبداع، وأصبح الإنسان المعيار والمقياس ومركز الانتماء. إنّه عصر بروز حركة الاحتجاج على الكنيسة والبابا والفساد الروحي.
أمّا عصر الأنوار فيشير إلى تلك الحركة الفكرية الواسعة التي قادها مفكّرون أوروبيون وفرنسيون خاصّة والذين عُرفوا بفلاسفة التنوير خلال القرن 18. وكانت قاعدة فكر الأنوار، من ذلك الايمان بالعقل واعتماد العقل كأساس وقاعدة للتفكير والنظر والإيمان بالحرية بمدلولاتها المختلفة الفردية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية والمساواة أمام القانون، كما تبلورت في سياقه أيضًا المفاهيم الجديدة: الشعب، الأمّة، الوطن، المواطنة والمؤسّسات المدنية المختلفة كالحزب والبرلمان والنقابات.
وبالرجوع الى مضامين الحركة الفكرية التي انطلقت بداية القرن 19 في عدة مناطق عربية نسأل إلى أي مدى ينطبق ما يُعرف بفكر النهضة العربية بفكر النهضة الأوروبية أو فكر عصر التنوير أو حتى الحركة الإصلاحية الدينية التي عرفتها أوروبا خلال القرن السادس عشر؟
يبدو أنّ الأمر متداخل، حيث إنّ أغلب ما أنتجه الفكر العربي، آنذاك، قد زاوج بين المضامين الثلاثة في التحليل ولكن بفعل التأثر بفكر حركة التنوير وإن كان في الجوهر يبدو بعيدًا عن مضمونها، وهو الأمر نفسه بالنسبة لمن نادوا بالإصلاح الديني.
مشروع النهضة يرتبط نجاحه بإبداع التصورات وفك الارتباط الفكري بتجارب كانت من بين أسباب تأخّر العرب
صحيح أنّهم طرحوا جملة من الأسئلة، منها أي دور للدين في تقدّم أوروبا؟ وأي دور للدين في تأخّرنا؟ وأي من الوسائل التي تساعدنا للحاق بالغرب؟ وهي غير الأسئلة التي طرحها مفكّرو حركتي النهضة والأنوار الأوروبيتين. (التي كانت نتيجة عوامل داخلية بالأساس) في حين طرح العرب أسئلتهم بفعل الصدمة والعوامل الخارجية (اشتداد أزمة الدولة العثمانية وبروز بعض الحركات الانفصالية وازدياد الضغط الأوروبي سياسيًا وتفاقم التغلغل الاقتصادي والثقافي وصولًا إلى السيطرة على بعض المناطق (مسقط البحرين والجزائر وتونس..) لذلك ستكون الأجوبة محكومة بهذا الواقع المأزوم، وهو ما سيحدّد مضمون الفكر العربي الحديث بتياراته الأساسية التي لم تتمكن من إحداث القطيعة الإبستيمولوجية الجذرية الضرورية مع ما هو سائد، بل حاول وبكل جهد استخدام المنهج التوفيقي واحتمى التيار الإسلامي الإصلاحي بالماضي، كما استرجع ومضات تألقه الأولى بصيغ ومصطلحات حديثة تتكيّف مع مجمل المتغيّرات والتطورات الحضارية في حين عمل التيار التحديثي التوفيق والاستنساخ والإسقاط دون ضوابط عقلانية.
ورغم ذلك، يظل مشروع النهضة طموحًا قائمًا مثقلًا بهموم الواقع العربي وبتناقضاته المعقّدة والمركّبة يرتبط نجاحه بإبداع التصورات وفك الارتباط الفكري بتجارب كانت من بين أسباب تأخّر العرب، بينما الحاجة اليوم إلى الاستفادة والاستئناس بتجارب شعوب أخرى لها تاريخ "شبيه أو مقارب" لتاريخ العرب تمكنت من تحقيق تقدّمها دون أن تكون مرجعيتها فكرة وتجربة خارجة عن نطاق خصوصياتها.
(خاص "عروبة 22")