علي عبد الرازق وفجر العلمانيّة الكاذب!

قبل مائة عام (1925)، أي بعد ست سنوات من هبوب ثورة 1919 في مصر، وعامين فقط من تدشين دستور 1923، وعام واحد من حكم حزب الوفد الليبيرالي، كتب الشيخ علي عبد الرازق مؤلّفه الشهير "الإسلام وأصول الحكم"، محاولًا تحرير السلطة السياسية من الادّعاءات الدينية، والتصدّي لرغبة الملك فؤاد في استيراد الخلافة العثمانية بعد سقوطها في إسطنبول.

علي عبد الرازق وفجر العلمانيّة الكاذب!

لقد أراد الشيخ المُستنير (1888 ـ 1966) تأسيس النظام السياسي على أساس عقدٍ اجتماعيّ، يخلو من ادّعاءات القداسة، فقال حاسمًا: "لم نجد فيما مرّ بنا من مباحث العلماء الذين زعموا أنّ إقامة الإمام فرض، مَن حاول أن يُقيم الدليل على فرضيّته بآية من كتاب الله الكريم، ولعمري لو كان في الكتاب دليل واحد لما تردّد العلماء في التنويه والإشادة به". ثم أضاف جازمًا: "ليس القرآن وحده هو الذي أهمل تلك الخلافة... بل السُنّة أيضًا قد تركتها ولم تتعرّض لها"، وذلك قبل أن يصل بجرأة استدلاله، وعبر استعراضه لمراحل صعود الخلافة وتدهورها، إلى تقرير أنّها عقد يحصل بالمبايعة من أهل الحلّ والعقد لمن اختاروه إمامًا للأمّة بعد التشاور بينهم، تعبيرًا عن الأمّة، وعن مصلحتها، ما يعني أصلها البشري الخالص ومرجعيّتها الدنيوية الواضحة.

لكن، وفي ظلّ الهشاشة البنيوية للتكوين الطبقي المصري آنذاك، إذ لم تكن هناك كتلة مجتمعيّة حديثة وواسعة، تتّسم بالديناميكيّة، تُمثّل حاضنةً ثقافيةً تستطيع أن تشكّلَ رأيًا عامًّا يحمي الحرية الفكرية للرجل وأشباهه من المُفكّرين، جرى قمع الشيخ المتنوّر وفكره. فمع غياب طبقةٍ وسطى عريضة، تُشكّل سياجًا عريضًا يشبه الغضاريف والعضلات بين عظام السلطة الصلب جدًّا ودماء الجماهير الرّخوة جدًّا، تظلّ العلاقة بين المثقّف مُنتج الفكر، وبين الحاكم صاحب السلطة، هي العلاقة نفسها بين الفرعون والكاهن في الزمن القديم، أو بين الفقيه / الشاعر، وبين السلطان / الأمير في الزمن الوسيط. مجرّد علاقة بسيطة ومباشرة، تحدّها العصا من ناحية، والجزرة من ناحيةٍ أخرى، فليُبرّر الفقيه من وحي القرآن ويُنشد الشاعر من وحي الخيال بغية الحصول على الجزرة، وإلّا فهي العصا!.

فقهاء جاهزون بفتاوى تُخرج المجدّدين عن أصول الشرع الحنيف فتُفتح لهم أبواب الزنازين وربّما المقابر أو يجري عزلهم

والنتيجة أنّ مُفكرًا أو كاتبًا، لم يكن ليستقلّ عن شبكات السلطة والثروة والنفوذ من حوله ألّلهمّ إلّا إذا كان من الزّاهدين، وهم قطعًا قليلون. وحتّى من لم يجذبه العطاء قد تُخيفه العصا، خصوصًا في ظلّ وجود قانون مثل ازدراء الأديان وما يشبهه في كلّ العصور، وأيضًا وجود المحامين الجاهزين لرفع قضايا الحسبة، وكذلك الفقهاء الجاهزين بفتاوى تُخرج المجدّدين عن أصول الشرع الحنيف، بحيث تُفتح لهم أبواب الزنازين، وربّما المقابر إذا ما تطوّع موتورٌ عقليّ بمهمّة تنفيذ "حُكم الشرع"!، أو على الأقلّ يجري عزلهم اجتماعيًا ومهنيًا على نحوٍ يشبه الحرمان الكاثوليكي في زمن محاكم التفتيش.

لقد انطلقت التيارات الرجعيّة تفترس الرجل على النحو المعروف، بحجّة علمانيّته، وهي تهمة نقبلها بوصفها تقريظًا للرجل، طالما فهمناها باعتبارها محض علمنة سياسية، تنحصر في نظام إدارة الدولة والمجتمع، وتصوغ العلاقة الأفقية بين البشر / المواطنين، وليست علمنةً وجوديةً، تمتدّ إلى المجال الأخلاقي، وتطول العلاقة الرأسية بين الإنسان والله.

فكرُه الرائد لم ينتج أثره على عينه لأنّ السلطة السياسية خانت أفكاره ولأنّ الإسلام السياسي يقمع الروح التنويرية

وعلى الرَّغم من أنّ بعض المفكرين الذين أرّخوا لفكر النهضة العربية، خصوصًا د. عبد الله العروي، يضعون عبد الرازق ضمن التيار العلموي الذي أسماه بـ"الليبيرالي" فإنّني لا أرى ذلك دقيقًا، بل أضعه على رأس التيار النقدي / التوفيقي في الفكر العربي، الذي نمت بذرته منذ عشرينيّات القرن الماضي وصولًا إلى لحظة الذروة في ستينيّاته؛ لأنه وإن دعا إلى موقف ليبيرالي ينطوي قطعًا على علمنة السياسة، فقد ظل بعيدًا تمامًا عن علمنة الوجود، وما تمثله من رؤيةٍ ماديةٍ للعالم، ترفض أي حقيقة خارج إطار التجربة الحسيّة، وترى في العلم دينًا بديلًا للوحي.

رحل علي عبد الرازق محزونًا بعد أربعة عقود من تلك المعركة، لأنّ فكره الرائد لم ينتج أثره على عينه، سواء لأنّ السلطة السياسية خانت أفكاره مثلما اغتالت أفكار غيره، أو لأنّ الإسلام السياسي الذي سيجري تدشينه ممثلًا بجماعة "الإخوان المسلمين" بعد ثلاث سنوات فقط، سوف يقمع الروح التنويرية السائدة لديهم. وبدلًا من شيوع منهج النقد التاريخي نفيًا لمفهوم الخلافة وما يحمله من ظلال دينية، ومحاولة تأسيس ظاهرة السلطة على مفهومَي: الأمّة، والعقد الاجتماعي، جاء من يتنكّر للفكر النهضوي العربي، وتراث الإصلاح الإسلامي معًا، داعيًا للدولة الدينية، كرشيد رضا، ومن يحاول أن يفرضها بالعنف كحسن البنّا، وهو عنفٌ لم يزل يتصاعد، من الزمن "الإخواني" البائس إلى الزمن "الداعشي" الدامي، مرورًا بكلّ أشكال التطرّف التي تفتك بالدولة الوطنية العربية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن