حتى لو ثار الشعب ثورة حقيقية قلبت نظام الحكم، وجاءت بالجديد الأيدولوجي والسياسي اكتشف الحكام الجدد أن الخارج لن يسمح بزيادة قدراتهم إلى الحد الذي يقارب مستوى قدرات الخصم، فتعود نغمة الانحراف والتأجيل ولوم الأعداء الداخليين والخارجيين إلى صدارة الكلام والكلام المضاد.
وتتكرر العملية بصورة دائرية أو دورية بين فترة وفترة وزعيم بعد زعيم وعاصمة بعد عاصمة ومجزرة بعد مجزرة سواء أكانت بأيدينا المدفوعة من وراء ستار أو بأيدي أعدائنا بانتظار أن تتكرر العملية دوريًا وباستدامة من عهد إلى عهد، ومن حقبة إلى حقبة. أما بالنسبة لأصحاب القضية المباشرين فهم متهمون بعار اللامقاومة إذا لم يقاموا وكذلك بعار توريط الآخرين و سكب دماء الذين لا يملكون اسلحة النصر إذا قاوموا.
التابع العربي يطيع المتبوع الأجنبي مُقدمًا أولويات الأخير على أولوياته إلى نقطة تُعرّض الأمن الوطني لبلاده إلى الخطر
هناك جدلية أخرى تتصل بالجدلية الأولى تنطبق على العلاقات بين الدول العربية والقوى الدولية الكبرى وهي جدلية قيام التابع العربي الضعيف بالانقلاب على المتبوع الأجنبي القوي والالتحاق بخصم الأخير، وإن كانت هذه الخطوة تنتقم لفترة وجيزة من المتبوع الأول، ولا تحل الأزمة التي يجابهها التابع على المدى البعيد. فللدول الكبرى حساباتها وهي حسابات تختلف عن حسابات الدول التي تدور في فلكها. (نستثني هنا العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل حيث العلاقة عضوية-دينية لا تنفصم إلا لضرورات الخداع السياسي أحيانًا).
فالتابع العربي يطيع المتبوع الأجنبي مُقدمًا أولويات الأخير على أولوياته إلى نقطة تُعرّض الأمن الوطني لبلاده إلى الخطر وتُعرّض الحكم وكرسي الحاكم للاهتزاز، فيشق عصا الطاعة، وينتقل إلى الجانب الدولي الآخر... فمن يبدأ بمناصرة دولة كبرى في الغرب ينتهي حليفًا لدولة كبرى في الشرق. ومن يبدأ نصيرًا لدولة كبرى في الشرق يشق عصا الطاعة، وينتهي حليفًا لدولة كبرى في الغرب. لذلك، يُتّهم الحاكم بأنه بدأ حاملًا لمشروع وطني، وانتهى ضحية مشروع بعيد عن الوطنية أو العكس.
تحجيم العرب وفصلهم عن بعضهم البعض هي نقطة محورية في الاستراتيجية الخارجية لكل دولة كبيرة
تحتاج التنظيمات الشعبية الوطنية إلى ظهير إقليمي كي يكون لها وزن سياسي يُحسب حسابه، بينما تحتاج الدولة الإقليمية الحريصة على استقلاليتها إلى ظهير دولي ليكون صوتها مسموعًا. وإذا لم يتوفر الظهير الدولي، فإنّ الظهير الإقليمي يدخل المواجهة مع إسرائيل المدعومة أوروبيًا وأميركيًا إلى أقصى حد، فتكون النتيجة معروفة سلفًا. ويدرك أصحاب القرار العرب أنّ لديهم حرية واحدة هي حرية المهرجانات الخطابية حصرًا إذ إنّ لا قوة دولية تدعمهم إلا بالحد الأدنى؛ لأنه إذا تحرر بلد عربي أو بلدان اثنين حقًا خاصة إذا كانا مجاورين (مثل سورية والعراق أو مصر وليبيا) من الضغط الخارجي أصبح أو أصبحا نقطة جذب لكل المنطقة العربية - الإسلامية وهو أمر لا تريده لا الولايات المتحدة ولا أوروبا ولا روسيا ولا الصين ولا الهند؛ لأنّ كل دولة من هذه الدول تضم داخل حدودها أقليات إسلامية ذات شأن وقد تجد في القطب العربي-الإسلامي البازع نواة تشكيل لقوة آسيوية-أفريقية وازنة تضمهم جميعًا. وهذا آخر ما تريده كل القوى التي ذكرنا.
إنّ تحجيم العرب بالإمعان في تجزئتهم داخليًا وفصلهم عن بعضهم البعض هي نقطة محورية في الاستراتيجية الخارجية لكل دولة كبيرة في العالم وإلا لما اتفق كل هؤلاء على تهميش المنطقة وإشغالها بأنماط مختلفة من الحروب والصراعات الثانوية التي تستدعي نشر الفساد في أروقة عواصمنا ومؤسساتنا إلى الحد الذي أصبحنا نتمثل بحرب بريطانيا ضد الصين في القرن التاسع عشر ونشن الموجة الثانية من "حروب الأفيون" أو "حروب الكابتغون" على بعضنا البعض دون وازع. وقد سمعت مرة من دولة رئيس الوزراء اللبناني الراحل، تقي الدين الصلح، أنه بعد توقيع ميثاق العمل المشترك بين سورية والعراق في تشرين الأول 1978 إثر زيارة الرئيس أنور السادات إلى إسرائيل، قام سفراء الدول الغربية بجولات على السياسيين اللبنانيين لإفهامهم أن بلادهم لن تدخر جهدا في تفشيل هذا المشروع.
(خاص "عروبة 22")