بصمات

التاريخ الوعظي والتاريخ القومي

في الأحاديث السالفة، التي جعلت أديبنا العظيم نجيب محفوظ مدار القول فيها، عملت على استخلاص فكرة محورية تقضي بأنّ صاحب "بين القصرين، وقصر الشوق، والسكرية"، ومؤلف "أولاد حارتنا" و"الشحاذ" (بين الأعمال الأخرى الشهيرة) ليس يمكنه أن يكون مرآةً للتاريخ والمجتمع المصريين في قول مطلق، بل إنه - لكل الأسباب التي ألمحت إليها ولستُ أرى اليوم فائدة في الرجوع إليها - يعكس، تحديدًا، وعيًا ما للمجتمع المصري وينسج خيوط تمثّل ما للتاريخ المصري.

التاريخ الوعظي والتاريخ القومي

ذلك هو مغزى التمييز الذي أحرص عليه بين قول القائل إنّ نجيب محفوظ مرآةً للتاريخ والمجتمع وقولي إن الأعمال الروائية والقصصية تقدّم تمثلًا ما للمجتمع المصري وتستبطن وعيًا ما للتاريخ المصري.

ودون حاجة لمعاودة ما سلف مني القول في دلالات كل من المجتمع والتاريخ والكتابة التاريخية وصلة ذلك كله بالإبداع الفني (شرط الرواية وماهية القصة والمسرحية)، أنتهي إلى تقرير القضية التالية: يمثّل التاريخ المصري، في الوعي الروائي لنجيب محفوظ، في صورتين اثنتين يصح نعت إحداهما بالتاريخ الوعظي، ويتعيّن وصف الأخرى بالتاريخ القومي (أو الوطني - كما نقول في منطقة المغرب العربي).

يحضر التاريخ المصري الفعلي وليس الميثولوجي حضورًا طاغيًا في أغلب روايات مرحلة "الواقعية الطبيعية"

التاريخ الوعظي، ويصح نعته أيضًا بالتاريخ الرمزي أو الأسطوري (في المعنى الذي تفيده الأسطورة في السيميوطيقا، وفي اللسانيات عامة) هو التاريخ وقد توخى منه القصاص أو المسرحي - وربما الروائي تخصيصًا - توظيف الرمز والدلالة. وما أكثر الأمثلة على ذلك في الرواية والمسرحية المعاصرين في عديد من دول أوروبا الغربية وفي أمريكا.

تحضر الميثولوجيا الإغريقية حضورًا قويًا في مسرحيات سارتر وكامي، والميثولوجيا الإغريقية مكوّن محوري للهوية الثقافية الغربية. ولعلي اجتنابًا للإطالة أكتفي بإيراد مثال واحد يعبّر أفضل التعبير عما أقصد قوله. إنه مثال "يوليسيس" للكاتب الايرلندي الأشهر جيمس جويس - وأجدني في غني عن تبيين المكانة التي تحتلها هذه الرواية في مجال الرواية المعاصرة والنقلة النوعية العظمى التي استطاعت إحداثها في مجال السرد الروائي وأجدني في حاجة إلى التنويه بالترجمة العربية الرائعة ليوليسيس من قبل صلاح نيازي - والقصد عندي الهوامش الثمينة التي لا تخلو منها صفحة واحدة من صفحات الترجمة، فهي مثال دال على ما أقصده بالاستعارة من التاريخ الميثولوجي، باعتباره مكوّنًا أساسًا للوعي الثقافي، وللوعي الفني تخصيصًا.

يحضر التاريخ الوعظي (= الميثولوجي) عند نجيب محفوظ حضورًا قويًا. يحضر في مختلف أطوار الكتابة الروائية التي مرّ بها صاحب "الحرافيش" و"أولاد حارتنا". يحضر هذا التاريخ على نحو قوي دال معًا في الروايات "الفرعونية" (نسبةً إلى مصر الفرعونية أو مصر القديمة) فهو كذلك في "رادوبيس"، "كفاح طيبة"، "عبث الأقدار". ثم إنّ الحضور "الفرعوني" ينبثق في صور كثيفة، قوية في مقاطع من "ثرثرة فوق النيل" - على سبيل المثال لا الحصر، "ووضح تمامًا أنه من سلالة الهكسوس فوجب أن يرتد إلى الصحراء". "ولن تكون أدهش من يوليوس قيصر إذ داهمته الحسناء الخالدة (...) كليوباطرة ملكة مصر". ويحضر التاريخ الرمزي (...) الميثولوجي في تجليات أخرى، عند زكي أنيس في "الثرثرة" أيضًا. "وأما خياله فلم يتخلص بعد من أحمد ابن طولون"، "دعنا من الكليشيهات التي ماتت بموت العصر المملوكي".

مخايل العبقرية عند نجيب محفوظ تكمن في القدرة العجيبة التي كان يمتلكها في المزاوجة بين أمرين كلاهما عسير

ويحضر التاريخ المصري (الفعلي وليس الميثولوجي أو الرمزي فحسب) حضورًا طاغيًا في أغلب روايات مرحلة "الواقعية الطبيعية". تحضر ثورة 1919، ودستور 1923، ومعاهدة 1936. ويحضر سعد زغلول بالصورة والإيحاء القوي في مقاطع شتى من الثلاثية. ثم إنه يحضر، في صور أقل "واقعية- طبيعية" في كل الروايات التي كُتبت بعد ثورة يوليو 52. هواجس الثورة والخيانة والانتهازية قوية، تشي بقوة حضور التاريخ الوطني في الوعي الروائي لعند نجيب محفوظ (اللص والكلاب، السمان والخريف، الطريق، ميرامار، الشيطان يعظ، ثرثرة فوق النيل....). يتجلى "شقاء الوعي التاريخي" قويًا دالًا عند الشخصيات الثلاثة الرئيسية في "الشحاذ".

صفوة القول عندي إنّ ملامح القوة، بل ومخايل العبقرية، عند نجيب محفوظ تكمن في القدرة العجيبة التي كان الرجل يمتلكها في المزاوجة بين أمرين اثنين كلاهما عسير: تمثّل للتاريخ، في بعديه التوظيفي (=الميثولوجي) والوطني وقد ملأ الوجدان - وهذا من جانب، ومهارة في جعل التاريخ يقوم على خدمة الرواية وإسعاف الإبداع الفني بما يشكل ماهيته وصورته معًا - والقصد عندي هو الإمتاع الفني.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن