بصمات

أروقة الأزهر.. عندما التقى العرب للحفاظ على لغتهم!

لمن ندين بالحفاظ على العربية إبان الحقبة التركية العثمانية عندما أُبعد العرب عن الحكم والإدارة؟.. ربما يكون الأزهر الشريف من الجهات التي نتوجه لها بالعرفان، إذ استطاع على مدار قرون أن يضطلع بهذا الدور المحوري، عندما فتح أروقته لاستقبال طلّاب العالم من مختلف أنحاء العالم العربي، فشكّل نقطة جذب مركزية لحماية اللغة ومكّن من استمرار إنتاج معرفة بها.

أروقة الأزهر.. عندما التقى العرب للحفاظ على لغتهم!

هذه الروح هي ما نحتاج إليها ونحن ننظر إلى المستقبل؛ مستقبلنا ومستقبل اللغة العربية. وُضع للأزهر نظام منذ العصر المملوكي وتطوّر في العصر العثماني، يتضمن تخصيص أحد أروقة الجامع الشهير بقلب القاهرة، ليقيم فيه مجموعة من طلبة العلم إقامة كاملة طوال سنوات الدراسة، ويطلق عليهم لقب "المجاورين"، ولكي يخضع الأمر للتنظيم الدقيق، أصبح كل رواق - والذي يشكل كلية علمية في مفهومنا الحديث - مختصًا بوافدين من قطر عربي أو إسلامي بعينه، بجوار الأروقة المختصة باستقبال أبناء الأقاليم المصرية، فهذا رواق الصعايدة، وذلك رواق الشوام، وهناك يقع رواق المغاربة، وهي أكبر أروقة الأزهر وأكثرها عددًا.

اضطلع الأزهر بالدور الأبرز في حماية العربية ومواصلة تطويرها

هذه الواحة المعرفية التي شكّلها الأزهر، سمحت بلقاء أبناء الأقطار العربية يتبادلون المعرفة تحت مظلتها، ويقيمون الصلات المعرفية والإنسانية، ويتحدثون بالعربية التي صارت لغة حية في التعامل بين جميع طلاب الأزهر من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، لذا لم يكن غريبًا أن ينجح الأزهر في حماية العربية ونشرها في الأقطار التي عمل فيها خريجوه، في وقت كانت النخبة المملوكية والعثمانية لا تعرف غير التركية، فاضطلع الأزهر بالدور الأبرز في حماية العربية ومواصلة تطويرها، في زمن تراجع عدد المنابر التي تقدّم معرفة بالعربية.

من النماذج التي انصهرت فيها جذور المشروع العربي، ما نراه في العلّامة مرتضى الزبيدي (ت 1790م)، الذي تعود أصوله إلى آل البيت من الفرع الحسيني. وإذا كان أصل أسرته من العراق، فإنه ولد في الهند، لكنه ترعرع في اليمن ثم رحل إلى بلاد الحجاز، ومنها إلى مستقره في مصر، حيث ألّف أشهر كتبه القاموس اللغوي العظيم "تاج العروس من جواهر القاموس"، وهو موسوعة تنتصر للغة العربية وترصد تطوّرها التاريخي كلغة حيّة متفاعلة مع مجتمعها.

كان أبرز أصدقاء الزبيدي في القاهرة، هو العالم الأزهري المتفنن حسن الجبرتي الإدريسي (توفى 1774م)، الذي تمتد أصوله إلى جبرت التي تقع شرقي إثيوبيا الحالية، بينما عاش حسن في القاهرة وتخرج من أروقة الأزهر، ويُعد من علماء الفلك والهندسة الكبار في عصره، وابنه عبد الرحمن الجبرتي هو تلميذ مرتضى الزبيدي، والأخير هو من طلب من الجبرتي الابن أن يجمع تراجم أعيان عصره من المصريين لأجل أن يرسلها إلى صديقه المؤرخ الشامي محمد خليل المرادي الحسيني، ليضمّنها كتابه في التراجم (سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر)، فلما مات الزبيدي، أصبحت المادة التي جمعها الجبرتي حجر الزاوية في كتابه التاريخي (عجائب الآثار في التراجم والأخبار).

الروح المنتجة التي تعتز بعربيّتها وتسعى لتطويرها وتطويعها لروح العصر هي ما ينقصنا

أما صديق الجبرتي فهو حسن العطار بأصوله المغربية، والذي نشأ داخل الأزهر وتعلّم في أروقته، وسافر إلى الشام والحجاز، ومع الغزو الفرنسي بقيادة بونابرت انسحب العطار إلى الصعيد، حيث أمد صديقه الجبرتي بتقارير عن المقاومة الشرسة ضد الفرنسيين، فكان وبحق أول مراسل حربي في مصر، وبعد عودته إلى القاهرة آمن قبل غيره بضرورة التحديث، فسعى وهو شيخ الأزهر لإرسال أحد تلاميذ الأروقة إلى أوروبا، فكانت رحلة رفاعة رافع الطهطاوي الشهيرة إلى فرنسا، الذي واصل رسالة أستاذه في ضرورة التحديث، إذ أصرّ على نقل المعارف الحديثة إلى العربية في مشروع ترجمة جبار، فهو وأستاذه لم ينظرا إلى العربية باعتبارها عائقًا أمام التعبير عن العلوم الحديثة، أو في استقبالها للمصطلحات الغربية.

هذه الروح التي نراها عند أجيال في عصور خالية، هي ما نحتاجه الآن لاستعادة روح مؤسسة مثل الأزهر لكي تكون مساحة مشتركة عربيًا، لا يعني هذا أنّ الأزهر وقد صار جامعة بشكل حديث لا يقوم بهذا الدور هو أو غيره من الجامعات المنتشرة في العالم العربي، لكن الروح المنتجة التي تعتز بعربيّتها وتسعى لتطويرها وتطويعها لروح العصر، هي ما ينقصنا. روح الجرأة في الاغتراف من العلم الحديث واستخدامه لإنتاج معرفة بالعربية، هي ما نحتاج حاليًا، فما ينقصنا هو استعادة نموذج الزبيدي والجبرتي والعطار والطهطاوي، أي نستعيد روح الرواق الأزهري لكن في سياق حديث يدرك التحديات ويتحدى الصعاب ويخلق الحلول، والأهم يهتم بالحفاظ على العربية كلغة علم.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن